حقوق الإنسان في الإسلام


إن الدعوة إلى الله ، وإلى الدين الحق ، وإلى إصلاح النفوس والقلوب ، على المستوى الإنساني كله ، هي رسالة الأمة الإسلامية ، إلى الناس جميعا.


وفي هذا العصر بالذات ، يحتاج ظهور الإسلام على الدين كله ، إلى دعاة يظهرونه بعلمهم ، وقدوتهم في مسلكهم ، ومعرفتهم بأحوال الناس ، وما يشغل حياتهم من أمور الدين والدنيا.


لقد جدت قضايا عديدة ، شغلت عقول الناس وفكرهم ونالت حظا وافرا من اهتمامهم وسعيهم ، وينبغي أن يكون الدعاة إلى الله ، على علم بهذه القضايا ، وما يراد منها ، والقائمين بها ، وما فيها من خير للناس أو شر.


وأهم من ذلك ، أن يضعها الدعاة إلى الله تعالى على ميزان الإسلام ، فتوزن به ، وتقوم على أساسه ، حتى يتميز الخبيث من الطيب ، في الأفكار والأعمال ، وحتى يعرف المسلمون حقيقة ما يعرض عليهم ، ويميزون بين ما ينفعهم منه ، فيستفيدون منه ، وما يضرهم في دينهم ودنياهم ، فيعرضون عنه.

 

وحين يتعرف الدعاة على حقيقة القضايا التي تثار بين الناس ، باسم حقوق الإنسان ، أو المساواة بين الرجل والمرأة ، أو التسامح الديني ، يستطيعون بما عندهم من علم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما يعرفونه عن حقيقة هذه الدعوات ، وأحوال أهلها والقائمين بها ، والأهداف التي ترمي إليها ، أن يكونوا هداة للناس إلى الحق فيما يثار ، ودعاة إلى الخير ، وروادا للإصلاح في مجتمعاتهم..

 

المحتويات


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين ، أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله تعالى ، تبدو في هذا العصر ، وعلى المستوى الإنساني كله ، شاقة وعسيرة.


كما تبدو مهمة الدعاة داخل المجتمعات التي يعيشون فيها أو خارجها ، معقدة ومتشابكة.


ولكن ذلك ، لا يعني أن يقل الجهد في أداء الرسالة ، أو ينصرف الدعاة عن مواجهة الصعاب ، التي تعترضهم في أداء مهمتهم.


إن الدعوة إلى الله ، وإلى الدين الحق ، وإلى إصلاح النفوس والقلوب ، على المستوى الإنساني كله ، هي رسالة الأمة الإسلامية ، إلى الناس جميعا.


ويجب أن تسير في أداء هذا الواجب ، على هدي الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق إلى الناس جميعا ، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ( سورة الأعراف ، الآية 158(.


وقد وعد الله سبحانه بظهور الإسلام فقال : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } ( سورة التوبة ، الآية 33(.

 

وظهور الإسلام على الدين كله ، يتحقق بالدعوة إلى الله تعالى ، التي تحتاج في هذا العصر إلى التخطيط ، واختيار أساليبها المناسبة ، ومعرفة الواقع الذي يحياه الناس ، في داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها.


كما تحتاج إلى إعداد الدعاة ؛ ليكونوا أهلا لنشر كلمة الله بين الناس ، لإصلاح القلوب والنفوس.
وفي كتاب الله تعالى ، بيان لأساليب الدعوة التي تخاطب العقول والنفوس: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ( سورة النحل ، الآية 125( .


وفي السنة الشريفة القولية والفعلية ، المثل الأعلى في ممارسة الدعوة ، ومخاطبة الناس ، وإصلاح النفوس ، وتزكيتها.


وفي عهد النبوة ، تقررت أصول الدعوة وآدابها ، والسنن التي تسير عليها ، على اختلاف المخاطبين ، في العقول والأفهام والظروف والأحوال.


ومعرفة هذا مما يجب أن يتسلح به الداعي إلى الله ، وهو أول العلم في الدعوة ، وأصدق التجربة فيها ، وخير دليل لتحقيق المقصود منها.

 

ولا يستقيم عمل الدعاة في أي زمان ومكان ، إلا بالعلم بالكتاب والسنة ، ومدارسة علوم الإسلام ، عقيدة وشريعة ، والتحلي بفضائل الإسلام ، واتباع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإبلاغ والإعلام ، والنصح والإرشاد ، والشرح والبيان ، للمخاطبين بالدعوة ، على اختلاف الظروف والأحوال.


وفي هذا العصر بالذات ، يحتاج ظهور الإسلام على الدين كله ، إلى دعاة يظهرونه بعلمهم ، وقدوتهم في مسلكهم ، ومعرفتهم بأحوال الناس ، وما يشغل حياتهم من أمور الدين والدنيا.


لقد جدت قضايا عديدة ، شغلت عقول الناس وفكرهم ونالت حظا وافرا من اهتمامهم وسعيهم ، وينبغي أن يكون الدعاة إلى الله ، على علم بهذه القضايا ، وما يراد منها ، والقائمين بها ، وما فيها من خير للناس أو شر.


وأهم من ذلك ، أن يضعها الدعاة إلى الله تعالى على ميزان الإسلام ، فتوزن به ، وتقوم على أساسه ، حتى يتميز الخبيث من الطيب ، في الأفكار والأعمال ، وحتى يعرف المسلمون حقيقة ما يعرض عليهم ، ويميزون بين ما ينفعهم منه ، فيستفيدون منه ، وما يضرهم في دينهم ودنياهم ، فيعرضون عنه.

 

وحين يتعرف الدعاة على حقيقة القضايا التي تثار بين الناس ، باسم حقوق الإنسان ، أو المساواة بين الرجل والمرأة ، أو التسامح الديني ، يستطيعون بما عندهم من علم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما يعرفونه عن حقيقة هذه الدعوات ، وأحوال أهلها والقائمين بها ، والأهداف التي ترمي إليها ، أن يكونوا هداة للناس إلى الحق فيما يثار ، ودعاة إلى الخير ، وروادا للإصلاح في مجتمعاتهم.


وبذلك يظهر الإسلام على الدين كله.


وفي هذه الصفحات ، ألقي الضوء على قضية تثار في هذه الأيام ، ويزداد الإلحاح على أهميتها ، وهي قضية حقوق الإنسان.


إن المصطلح جذاب ، يغري كثيرا من الناس ، والمبادئ براقة ، قد ينخدع بها المسلم المعاصر.
ومنذ أكثر من أربعة عشر قرنا ، والمسلمون يسمعون عن كرامة الإنسان ، والتسوية بين الناس ، والتكافل والتراحم بينهم ، بل إن المسلمين منذ ظهور الإسلام ، وهم يقرؤون آيات الكتاب العزيز ، وأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ترشدهم ، وتهديهم إلى هذه المعاني السامية.

 

ولكن الخطر كل الخطر ، والضرر كل الضرر ، على المجتمعات الإسلامية ، يظهر حينما نوازن بين الشعارات التي تأتينا من كل حدب وصوب عن هذه المبادئ ، وبين مفاهيمنا الإسلامية عنها.


فنحن نعرف من ديننا كرامة الإنسان ، والمساواة بين الناس ، والشورى ، والتكافل ، والتراحم بين الناس.


فهل ما يدعون إليه ، هو ما نعرفه ، وما نفهمه عنها ، في ديننا ؟
فالمبادئ ، جذابة وبراقة ، وربما تكون المصطلحات واحدة ، ولكن ما هو المضمون ؟ وما هي المفاهيم ؟ وما أثر ذلك في عقيدتنا وأخلاقنا وسلوكنا ، حين تخدعنا المبادئ والشعارات وحدها ، دون أن نحقق في مضمونها ، وفي المفاهيم التي تندرج تحتها ؟


المقصود في هذا البحث ، أن نتعرف على الحقيقة في قضية حقوق الإنسان ، كما تثار في عالمنا المعاصر ، وأهم من ذلك ، أن نضع شعاراتها ، ومفاهيمها ، ونتائجها ، في ميزان الإسلام ، قاصدين من ذلك ، الدعوة إلى سبيل الله ، وإرشاد المسلمين إلى الحق ، وهدايتهم إلى الخير ، وإصلاح دينهم ودنياهم:
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } ( سورة الرعد ، الآية 17(.
والله المستعان.

 

عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد

 

حقوق الإنسان في الفكر الغربي

تظفر قضية حقوق الإنسان ، بأهمية كبرى في العصر الحديث ، على مستوى الشعوب والدول والمنظمات الدولية.


ويعد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في10 / 12 / 1948 م ، تتويجا لحضارة الغرب ، ولجهود المفكرين والمصلحين فيه في العصر الحديث.


وقد صدر الميثاق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة ، تعبيرا عن الرغبة في وحدة البشرية ، ووحدة حقوق الإنسان ، في المجتمع الدولي ، الذي قاسى من ويلات الحرب.


وكان تناسي حقوق الإنسان ، أو إهمالها ، قد أفضى إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني ، كما ورد في الميثاق.


ولذلك ، دعا في مقدمته إلى توطيد احترام الإنسان وحرياته ، والعمل عن طريق التربية والتعليم ، واتخاذ إجراءات قومية وعالمية ؛ لضمان الاعتراف بحقوق الإنسان ، ومراعاتها بصورة فعالة ، بين الدول الأعضاء في المنظمة العالمية ، وكذلك بين الشعوب الخاضعة لسلطانها.


لقد توج الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ، جهودا كثيرة لمفكرين وفلاسفة من الغرب.

 

وترجع هذه الجهود إلى القرن الثالث عشر الميلادي ، حينما صدرت الماجنا كارتا سنة 1215م في إنجلترا ، التي اكتسب الشعب الإنجليزي بمقتضاها ، حقه في تجنب المظالم المالية ، التي كانت توقعها به السلطة وقتذاك.


وقد تضمنت وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي سنة 1776م ما يعد من حقوق الإنسان ، بتأكيدها على الحق في الحياة والحرية والمساواة.


وأصدرت الثورة الفرنسية وثيقة إعلان حقوق الإنسان في 26 / 8 / 1789م ، وهي تعد إعلانا عن هذه الحقوق . وهكذا سبقت هذه المواثيق ، الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ، الذي يعد خطوة هامة وحاسمة ، بعد جهود المفكرين والفلاسفة الأوروبيين لعدة قرون ، والتي استهدفت حماية الشعوب من المعاناة والآلام ، التي كانت ترزأ تحتها من السلطات الإدارية والدينية في أوروبا ، خلال عصور الظلام ، وبدايات عصر النهضة الأوروبية.


تلك المعاناة التي ترجع إلى استبداد الحكم الإقطاعي ورجال الكنيسة ، واندفاع الكنيسة إلى محاربة كل الاتجاهات الفكرية ، التي تسعى إلى تحرير عقل الإنسان ونفسه.


وهذه العوامل كلها ، لم يكن لها وجود في الإسلام ، عقيدة وشريعة ، أو حضارة.


وثمة مسألة ، ينبغي ذكرها ، وهي:

أن فكرة حقوق الإنسان هذه ، التي نشأت في داخل القارة الأوروبية ، استخدمت في تحرير الإنسان الأوروبي من طغيان السلطة ورجال الكنيسة ، ولم تمتد هذه الفكرة ، لتشمل بالحماية شعوبا بأكملها ، خضعت للاستعمار الأوروبي في العصر الحديث ، بل لاقت منه من المظالم والاستبداد ، كل ما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان.


إن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ، والذي يربط البعض بينه وبين ميثاق الأمم المتحدة ، قد ركز النظر على حقوق الإنسان على المستوى الدولي.


ولم تصبح هذه القضية في كل دولة ، خاضعة لاعتبارات السيادة الوطنية ، بل امتزج الاعتراف بهذه الحقوق وممارساتها بطابع دولي ، ولم تعد علاقة الدولة بالفرد خارجة عن إطار القانون الدولي ، ولا تهم سوى القانون الداخلي.


بل أصبح لها ، طابعها الدولي المميز ، والذي جعل موضوع حقوق الإنسان يخرج من إطار النسبية الزمانية والمكانية ، التي كانت تستغل من جانب النظم الاستبدادية ، كالنازية والفاشية والنظم الماركسية ، في إهدار كرامة الأفراد ، كما استغلت من جانب الدول الاستعمارية ، في التعامل غير الإنساني ، وغير العادل ، مع الشعوب التي كانت خاضعة لسلطانها في العصر الحديث.

 

غير أن لذلك الأمر ، وهو الطابع الدولي لحقوق الإنسان ، محاذيره.


فقد أصبح موضوع حقوق الإنسان ، موضوعا متشابكا ومعقدا ، يختلط فيه الفكر بالمواقف ، وأصبح هذا الموضوع ، يشغل العالم في الوقت الحاضر ، وربما لعقود قادمة.


لقد أصبحت قضية حقوق الإنسان الآن ، أحد أسلحة السياسة الخارجية للدول الكبرى ، يبدو ذلك في استخدام قضية حقوق الإنسان ، معيارا في تقديم المساعدات الدولية للدول النامية ، فتحجب هذه المساعدات عن الدول التي تخالف ، أو تتهم بمخالفة حقوق الإنسان ، في نظر الدول القوية.
كما ظهرت فكرة إنشاء وظيفة "مفوض سامي" في الأمم المتحدة ؛ لمراعاة تطبيق مبادئ حقوق الإنسان.


ولا يخفى ما يترتب على تنفيذ ذلك ، من مشكلات في الواقع المعقد لنظام عالمي جديد ، أعلن عن وجوده منذ سنوات ، ولم تتبلور حتى الآن اتجاهاته وقيمه الأساسية وموازينه ، مما يفتح الباب لصور من التدخل غير المسوغ في الشؤون الداخلية للدول ، تحت شعار حقوق الإنسان.

 

ومن ناحية أخرى ، فإن أطرافا أخرى غير الدول والحكومات ، أصبحت بمقتضى أهدافها وأنشطتها ، ذات صلة كبيرة بالموضوع ، مثل الجمعيات الأهلية ، والمنظمات غير الحكومية ، في البلاد المختلفة.


لقد كان للمنظمات غير الحكومية ، أثر مهم في مؤتمر فينا لحقوق الإنسان ، الذي انعقد في الفترة من 24 ذي الحجة 1413 هـ إلى 5 محرم 1414 هـ الموافق 14- 25 يونيه 1993م ، وشاركت فيه المملكة العربية السعودية بوفد على مستوى عال ، برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية.


وكان عمل المنظمات غير الحكومية فيه ، مكافئا ومناظرا للدول والحكومات.


مما يفتح الباب لمزيد من الاقتناع بالحق في التدخل الدولي في البلاد التي تتهم بخرق مبادئ حقوق الإنسان ، في نظر هذه الدول ، أو هذه المنظمات الأهلية ، تحت ستار المحافظة على تطبيق مبادئ حقوق الإنسان.


ومن بينها منظمات ، رسخت عملها في هذا المجال ، ولها تقاريرها التي لا تخلو من افتراءات ، ولا تقيم وزنا للخصوصية الاجتماعية والثقافية والدينية للشعوب ، إزاء نموذجها الغربي الوحيد.

 

نقد النظرة الأوروبية لحقوق الإنسان

لقد نشأت المدرسة الأوروبية الأولى لحقوق الإنسان ، نشأة سياسية ، خلال القرن الثامن عشر الميلادي ، وكان هدف مفكريها وقادتها ، هو تأكيد الحريات العامة في المجتمع ، وجعلها بعيدة عن متناول السلطة المستبدة ، حتى لا تستطيع إهدارها ، دون جزاء قانوني.


ولذلك ارتبطت حقوق الإنسان في أوروبا ، بموضوع الحريات العامة ، التي كانت تنص عليها الدساتير.


ولم يكن ذلك سديدا ؛ لأن الأنظمة السياسية تختلف ، ومن شأن ذلك ، إضعاف فكرة حقوق الإنسان ، وإضفاء طابع النسبية عليها ، وجعل الحقوق والحريات العامة ، كأنها تمارس ضد السلطة أو رغما عنها.


ولقد ظل توحيد مصطلح الحريات العامة ، مع مصطلح حقوق الإنسان ، فترة طويلة ؛ إذ كان تأكيد الحريات العامة ، وترسيخ مبدأ حصول الفرد عليها في مواجهة السلطة ، هو ما شغل المفكرين ، لا سيما من رجال القانون.


ذلك ؛ لأن بعض هذه الحريات العامة ، مثل حرية الفكر والرأي ، شديدة الاتصال بالسلطة وبالنظام السياسي السائد ، فكان الهدف ، هو أن تتضمن الدساتير نصوصا هذه الحريات ، وضمانات لتطبيقها.

 

ويرجع ذلك في الأساس ، إلى أن شعوب دول أوروبا على وجه العموم ، كانت تعاني من استبداد السلطة وتحكم رجال الكنيسة.


لقد تطورت المدرسة الأوروبية في حقوق الإنسان ، ناظرة إلى فكرة ( الحق) في ذاتها.
ومقتضى ذلك ، أن تكون حقوق الإنسان ، هي تلك الحقوق التي يتعين الاعتراف بها للفرد ؛ لمجرد كونه إنسانا ، ولا يشترط أن يكون لها حماية قانونية ، بل العبرة بكونها من حقوق الإنسان ، لا يكون السلطة تمنحها أو تحميها.


وهذا التطور في فكرة حقوق الإنسان ، يبدأ بالانطلاق من فكرة الحق ذاتها ، وهو أساس مغاير لما سبق في نشأة المدرسة الأوروبية في حقوق الإنسان ، التي بدأت النظر في الموضوع ، باعتبار أن حقوق الإنسان ، هي الحريات العامة التي تمارس ضد السلطة.


وهو نظر منتقد أيضا ؛ لأن بعض الحقوق لا يمكن اعتباره حرية من الحريات ، مثل حق الإنسان في التأمين الاجتماعي ، فهذا الحق ليس في معنى الحرية أو غيرها من صور الحريات العامة.


أما في النظر الإسلامي ، فإن تلك الحقوق ينبغي أن تكون عامة ، يتمتع بها الفرد في مواجهة الغير ، وليس في مواجهة السلطة وحدها.

 

فكرامة الإنسان في النظر الإسلامي ، قيمة في ذاتها ، والإنسان يتمتع بها في مواجهة الجميع ، وليس في مواجهة السلطة وحدها.


وقد بدأ الإسلام ، الخطوة الأولى والحاسمة بتحرير الإنسان من كل ما يضعف إرادته الحرة ، في داخل الإنسان نفسه ومن خارجه ، مما سنذكره فيما بعد.


والتطور الذي حدث في المدرسة الأوروبية الحديثة ، قد يتفق مع النظر الإسلامي ، في أن هذه الحقوق تثبت للإنسان بوصفه إنسانا ، وأنها لا تتوقف في وجودها وعدمها ، على تقرير القانون لها ؛ لأنه لا ينشئها.


وإذا كان النظر الوضعي ، يرجع نشأتها إلى أنها تنبثق من ضمير الجماعة ، فإن المسلمين يرجعون استحقاقهم لها ، باعتبارهم آدميين ، إلى إرادة الله سبحانه وتعالى ، وحكمته وتشريعه ، وتفضله عليهم.


والسبب ، في النظر الوضعي الأوروبي إلى مصدر هذه الحقوق ، وأنه ضمير الجماعة ، يرجع إلى الرغبة في الابتعاد عن الدين مصدرا لهذه الحقوق.


ولذلك جعل ضمير الجماعة معبرا عن الرغبة في إعلاء مصدر هذه الحقوق ، دون الاقتراب من المصدر الحقيقي لكافة حقوق الإنسان ، وهو شرع الله تعالى ودينه ، كما هو في النظر الإسلامي.

 

وهذا لا يتفق مع فكر مئات الملايين من البشر ، الذين يرون أن نسبة حقوق الإنسان وإسنادها إلى الله عز وجل ، أعظم ضمان في الاقتناع والتطبيق العالمي ؛ لأن في ذلك إعلاء ورفعة لشأنها.


إن حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية ، تنبع من فكرة مستقلة عن إرادة البشر ، وعن النسبية الزمانية ، والمكانية ، والمفاهيم المتعددة ، أي معايير التطبيق المختلفة في المجتمعات الإنسانية ، على اختلاف النظم والقوانين.


هي بإيجاز ، من نعم الله- سبحانه وتعالى- على عباده ، جاءت في الشريعة الإسلامية ، في نصوصها ، وأصولها العامة ، وألزمت بها الكافة ، الحاكم والمحكوم ، والدول والشعوب ، وهي ليست سلاحا في يد السلطة ، أو مسوغا لخروج الناس على المجتمع أو الحكام.


والنظر الإسلامي ، يتلافى عيب النسبية الزمانية والمكانية ، ويجعل حقوق الإنسان في مواجهة الكافة ، ويقيم ضمانا لهذه الحقوق ، باعتبار مصدرها ، وذلك أقوى الضمانات عند التطبيق والممارسة.
ومن الخطأ الادعاء بأن قيم حقوق الإنسان في النظر الوضعي ، مثل الحرية والمساواة ، مطلقة لا تتغير بحسب المجتمعات الإنسانية وأحوالها وزمانها ومكانها.

 

ذلك ، أن مفهوم حقوق الإنسان ، لا يمكن اعتباره مفهوما علميا صارما ، يخضع في التقويم لمعايير واحدة ، في كل المجتمعات على اختلاف الزمان والمكان والظروف والأحوال.


وعلى سبيل المثال ، فإن الحق في الحرية والعدالة والمساواة ، وهي حقوق أساسية من حقوق الإنسان في العصر الحديث ، لا تظفر بذات التقدير والوزن في كل المجتمعات ، ولا توضع في نفس الدرجة من حيث الأهمية والأولويات.


فبعض الدول ، تعطي الحرية مفهوما سياسيا ظاهرا ، وبعضها يعطيها مفهوما اجتماعيا أو ثقافيا أو فرديا ، بل يعطيها مفهوما جنسيا ، فيما يطلق عليه الحرية الجنسية ، وهي الفوضى بذاتها.


والمساواة قيمة عليا للإنسان ، تخضع لظروف المصالح المادية وللمفاهيم الاجتماعية.


والعدالة ، تفسر في كثير من الأحيان وفق المصالح والأهواء.


إن مفهوم القيم ، يبدو متغيرا ونسبيا.


ولا يمكن الاتفاق على مفهوم واحد للحرية أو المساواة ، وضوابط هذا المفهوم التي تضمن صحته وبقاءه في التطبيق ، مما يظهر لنا أن الاعتماد في تحديد القيم الإنسانية العليا ومفاهيمها وضوابطها ، ينبغي أن يتجرد من النسبية الزمانية والمكانية.

 

ونعتقد عن يقين ، أن ذلك لا يتأتى إلا إذا اعتمدنا في ذلك على مصدر تشريعي أسمى وأعلى من قوانين الزمان والمكان والبشر ، يخضع له الإنسان بوصفه إنسانا عن إيمان واقتناع.


فالتجرد من النسبية في موضوع حقوق الإنسان ، لا يتأتى إلا عبر هذا الطريق وحده ، وهو لدى المسلمين ، يتمثل في الشريعة الإسلامية بمصدرها الإلهي ، في أصولها ونصوصها.


ولا ينكر أن ما توصلت إليه المدرسة الحديثة من تطور في فهم حقوق الإنسان ، يعد خطوة على الطريق الذي ألمحنا إليه.


وبمقتضاه ، فإن حقوق الإنسان ، لها مصدر أعلى من التنظيم الاجتماعي ، الذي يأخذ به مجتمع معين في زمن بعينه ، بمقتضى قوانينه وأعرافه وتقاليده ومواريثه الثقافية.


غير أن هذا التجريد في إسناد حقوق الإنسان إلى ضمير الجماعة ، لا يكفي في الوصول إلى العالمية التي تنشدها الإنسانية والتاريخ الإنساني

 .
يوضح لنا ذلك بجلاء ، أن ضمير الجماعة ، قد قبل في الزمان والمكان ، ما يعد من أبشع المظالم وأكثرها مناقضة لفكرة حقوق الإنسان.

 

لقد قبل الضمير الإنساني في مجتمعات عديدة وأزمان معينة ، لا سيما في الإمبراطوريات القديمة ، وحتى في بعض النظم السياسية في العصر الحديث ، وفي أوروبا بالذات ، إهدار قيمة الحياة الإنسانية لأتفه الأسباب ، وقبل إيقاع المظالم والمآسي بمجتمعات أخرى مخالفة في الدين أو العرق أو حتى في المصالح ، وليس أدل على ذلك من قراءة سريعة للاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا.


إن ضمير الجماعة ، لا يصلح مصدرا علويا لحقوق يفترض أنها تعم الإنسانية ، ويستحقها الفرد باعتباره آدميا.


إن مفاهيم حقوق الإنسان حتى في الحقوق الأساسية ، مثل حق الكرامة الإنسانية والمساواة ، والضمان الاجتماعي ، تكتسب قيمة نسبية تبعا للمفاهيم التي يعطيها ضمير الجماعة ، والذي يتكون ولا شك في زمن معين ومكان بعينه ، وتبعا لظروف متباينة ، وفي ذلك ما فيه من الخطورة.


ولا تصح عبارة ضمير الجماعة ، إلا إذا قصد بها الضمير الإنساني السوي على امتداد الزمان والمكان ، وعندئذ نصل إلى أنه الضمير ، الذي غرسته قيم الرسالات الإلهية في الإنسان ، على تتابع الوحي والرسالات ، حتى ظهور الإسلام خاتمها وناسخها ، الذي يجب أن يتعبد الناس ربهم وفق شريعته.

 

لقد كان القصد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر بتاريخ 10 / 12 / 1948م ، أن يكون نموذجا عالميا مشتركا لكل الشعوب ، حتى تتعزز مكانة حقوق الإنسان ، فيكون مجرد خطوة ، يجب أن تتبعها صياغة لقانون دولي لحقوق الإنسان ، يكون له قوته الإلزامية.


وعملت هيئة الأمم المتحدة ، على أن يتحول ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى اتفاقية دولية ، وفي هذا الاتجاه تم إنجاز اتفاقيتي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ، والمدنية والسياسية ، وصدرت الاتفاقيتان في 16/ 12 / 1966 م ، وبدأ نفاذهما عام 1976 م.


وإلى جانب هاتين الاتفاقيتين ، فإن الاهتمام بقضية حقوق الإنسان ظهر في اتفاقيات عديدة ، مثل : الاتفاقية الدولية لإزالة التمييز العنصري ، واتفاقية حقوق الطفل ، واتفاقية حماية حقوق العمال المهاجرين.


وقد تم العمل والممارسة في التصدي لموضوع حقوق الإنسان على المستوى العالمي ، عبر إطارات متعددة في هذا المجال ، وعلى رأسها الجمعية العامة للأمم المتحدة ، والمنظمات الإقليمية ، مثل جامعة الدول العربية ، ومنظمة المؤتمر الإسلامي.

 

وتعتمد المنظمات الدولية على لجان من الخبراء الذين يتولون بحث الموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان ، أو مراقبة تطبيقها في الدول المختلفة ، وفحص التقارير والبيانات المقدمة بشأنها.


وقد أفرز الاهتمام بالموضوع على مستوى الشعوب ، منظمات غير حكومية ، تمتع بعضها بتقدير مبالغ فيه ، مثل منظمة العفو الدولية ، التي لا تخلو تقاريرها من الهوى والغرض ، ويعيبها الجهل بالخصائص الدينية والثقافية والاجتماعية للمسلمين والشعوب غير الغربية.


ولا بد من الإشارة إلى فارق أساسي وجوهري بين التشريع الإسلامي ، وبين كل النظم القانونية الوضعية ، يظهر أثره في موضوع حقوق الإنسان ظهورا وافيا.


ففي الشرع الإسلامي ، تعتبر الشريعة الإسلامية ، هي مصدر الحقوق كلها ، ولا يوجد حق مقرر للإنسان يخرج عن نصوصها أو قواعدها الكلية ، وبذلك تكون الشريعة الإسلامية ، هي أساس الحق ومصدره ، وسنده وضمان وجوده والحفاظ عليه في المجتمع.


أما في التصور الوضعي فإن الأمر على العكس من ذلك تماما.


إن الحق فيه ، هو أساس التشريع والقانون.

 

هذه هي القاعدة ، ومعناها : أن كل ما يراه المجتمع حقا ، يصبح- تبعا لذلك - قانونا ونظاما في المجتمع ، فالحق هنا ، أساس القانون والنظام ، الذي تضعه السلطة القائمة ، أيا كان مصدر شرعيتها.


وليس مصدره تشريعا ربانيا ، ولكن مصدره ، ما يراه الناس في وقت معين ومكان معين ومجتمع بذاته.


وهو أيضا ، ما لا يراه جميع الناس ، بل تراه الأغلبية منهم ، أيا كان قدر هذه الأغلبية.
أما نحن- المسلمين- فإننا نملك معيارا عاما ومجردا لتحديد الحقوق ، هو الشرع الإلهي ، وهو معيار ، يخضع له الجميع عن إيمان واقتناع.


بينما الأمر في النظم الوضعية على خلاف ذلك ؛ إذ إن المعيار الذي تتحدد الحقوق على أساسه ، معيار نسبي بطبيعته ، وقابل للتغيير بحسب الزمان والمكان والمجتمعات ، واختلاف مواريثها الدينية والثقافية ، وهو معيار ، قابل للجدل والمناقشة والإقرار والإنكار ، بحسب اختلاف الظروف في المجتمع ، والسلطة القائمة عليه ، وقد يصبح هو الأساس ، بينما لا يقر ذلك مجتمع آخر ، أو المجتمع نفسه في وقت لاحق.

 

ومهما حاولت النظم الوضعية ، أن تتجنب هذه النسبية ، بإسناد حقوق الإنسان إلى ضمير الجماعة ، فإن هذا الضمير يتكون وفقا لمعطيات نسبية زمانيا ومكانيا ، لا سيما أن لفظ الجماعة ، ينبغي أن ينصرف في هذا المجال إلى الجماعة الإنسانية كلها ، وهو أمر لا وجود له حتى الآن في الواقع المعيش.


بينما يترسخ هذا المبدأ ، وهو الوحدة الإنسانية في الإسلام ، والذي جاء أساسه في القرآن الكريم واضحا ، قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ( سورة الحجرات ، الآية 13).


والإنسانية كلها في النظر الإسلامي ، جاءت من نفس واحدة ، يقول الله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً }                  ( سورة النساء  الآية 1).


وفي الشرع الإسلامي ، تظهر سلامة القاعدة وصحتها.


إن الشريعة أساس الحق ومصدره ، وهي شرع الله عز وجل لبني الإنسان في كل زمان ومكان.

 

هنا يكون للحق مصدر إلهي ، علوي ، بعيد عن قيود الزمان والمكان ، واختلاف الظروف والأحوال في المجتمعات الإنسانية.


والسلطة في النظر الإسلامي تعد في مركز الأمين ، الذي يرعى مصالح الناس ، فهي ليست طرفا في مواجهة الناس يحمون أنفسهم منه ، وهي سلطة تتقيد بالشريعة الإسلامية في نصوصها ومبادئها الكلية.


وهذه الفكرة ، وهي أمانة السلطة ومسئوليتها عن الناس ، فكرة إسلامية المنشأ والمصدر ، وهي تجعل المجتمع يتعاون مع السلطة.


ونؤكد هنا ، أن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في العرض والتقويم ، يعبر عن فكر الغرب وحضارته فحسب.


وبعض المعايير التي يأخذ بها أساسا للحكم والتقويم ، تكشف ذلك بوضوح.


فعلى سبيل المثال ، وبحسب مقياس ( هومانا ) الذي يعتد به في هذا المجال ، فإن عقوبة الإعدام ، تعتبر انتهاكا لحقوق الإنسان.


وحق المرأة في تكوين الأسرة بحسب هذا المعيار ، يجب أن يكون مطلقا ، بغض النظر عن الضوابط الدينية ، التي يؤمن بها مئات الملايين من البشر.


بل إن فرض عقوبة على ممارسة الشذوذ الجنسي ، يعد انتهاكا لحقوق الإنسان.

 

ولا يخفى أن مثل هذه المعايير ، لا يمكن أن تظفر بالاحترام ، أو حتى بالموافقة على المستوى العالمي.


فإن تعدد الحضارات والثقافات والمواريث الاجتماعية ، فضلا عن الرسالات الإلهية ، يوجب أن تكون المعايير والمفاهيم متعددة.


قد تكون مبادئ ميثاق حقوق الإنسان ، مقبولة لدى البعض.


لكن المفاهيم ، ومعايير التقويم ، وضوابط التطبيق ، يجب أن تكون نسبية ، مراعاة لتعدد الثقافات والمواريث الاجتماعية في العالم المعاصر ، بحيث يتاح لكل دولة أن تكون نظمها السياسية وقوانينها وتشريعاتها ، معبرة عن مصالح شعبها وقيمه ومواريثه الحضارية ، في نطاق كرامة الإنسان ، وهو أول مبادئ حقوق الإنسان وأهمها ، على اختلاف الحضارات والثقافات ، والمواريث التاريخية والاجتماعية في شعوب العالم.

 

ونشير إلى أن مداولات مؤتمر فينا الذي انعقد في الفترة من 24 ذي الحجة 1413هـ الموافق 5 محرم 1414 هـ الموافق 14 -25 يونيه 1993 م ، قد كشفت عن اقتناع كثير من الدول بهذا المنطق السليم ، لا سيما الدول النامية ، التي هالها اختلاف المفاهيم وازدواج المعايير عند الحكم والتقويم ، حتى إن بعض المبادئ والقيم الأساسية في حقوق الإنسان تتراجع ، ولا تلقى حماية ، حينما يظهر تعارضها مع مصالح كثير من الدول وأهدافها السياسية.


بينما تتخذ هذه المبادئ والقيم سلاحا ضد بعض الدول ، حينما تتفق مع المصالح السياسية للدول الكبرى بالذات.


ويمكن النظر إلى ازدواجية معايير الحكم والتطبيق في قضايا إسلامية عديدة في الوقت الحاضر ، مثل قضية شعب البوسنة والهرسك ، أو قضية كشمير ، أو قضية فلسطين.


إن المعايير ، تتعدد بحسب المصالح ، بل بحسب التعصب العرقي أو الديني.


ومن المحزن أن انتهاكات حقوق الإنسان ، التي أفزعت الضمير الإنساني العالمي في هذه القضايا ، لم تواجه بموقف عادل من الدول الكبرى ، للدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان ، ورد العدوان عليها.

 

وكان النظر إلى ما جرى من مذابح وقتل وتشريد واغتصاب للنساء ، محكوما بالمصالح السياسية لهذه الدول.


وحتى المنظمات الأهلية الشهيرة ، مثل منظمة العفو الدولية ، اكتفت بمجرد الإدانة الباهتة ، ولم تلاحق المسؤولين عن هذه الجرائم الكبرى ، بنفس الحماس الذي تظهره في شأن واقعة فردية تحدث في دولة أفريقية أو آسيوية.

 

خصائص النظرة الإسلامية لحقوق الإنسان

أولا : موقع الدين في حقوق الإنسان: من الضروري ، أن نشير ابتداء إلى حقيقة كبرى تخفى على كثير من غير المتخصصين في موضوع الرسالات الإلهية والتشريع الإسلامي على وجه خاص ، بل وقد تلقى هذه القضية عدم الاهتمام أو الإغفال ، من جانب بعض المتخصصين ، لا سيما في دائرة الفكر الغربي بالذات.


إن الدين في الفكر الغربي منذ بداية العصر الحديث ، ينسحب تدريجيا من حياة الفرد والمجتمع ، ويزداد الاقتناع بأن مجاله الوحيد علاقة الإنسان بربه فحسب ، وأن أثره في إصلاح المجتمع أثر هامشي.


وبسبب الظروف التاريخية والسياسية في أوروبا ، في العصور الوسطى ، فقد ساد بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 م مبدأ فصل الدين عن الدولة ، ثم بعد ذلك كانت أكبر المحاولات لعزل المجتمع عن الدين ، على يد الماركسية ، التي طبقت في بداية القرن العشرين ( 1917م ) ، وانهارت فكرا وتطبيقا في نهايته.


ويبدو الفكر الغربي تجاه الدين واضحا من تعريف الدين ذاته ، فهناك عشرات التعريفات للدين ، وهي تتسع لكل الآراء التي تحاول إبعاد الدين عن حياة الناس ، أو جعله غامضا في فكرته أمام الفرد.

 

وذلك مرفوض رفضا قاطعا في الإسلام ، لأسباب واضحة لا حاجة إلى تفصيلها.


وقد أثير الخلاف حول مفهوم الدين في موضوع حقوق الإنسان بالذات ، في لقاء عقد بين علماء من المملكة العربية السعودية ، وبعض كبار رجال القانون الأوروبيين.


فمنذ أكثر من عشرين عاما ، أبدى بعض كبار رجال القانون والفكر في أوروبا ، عن طريق سفارة المملكة العربية السعودية في باريس ، رغبة في الاجتماع بعلماء من المملكة العربية السعودية ، للتعمق في مفاهيم حقوق الإنسان في الإسلام.


ونظمت وزارة العدل في المملكة خلال شهر صفر 1392 هـ ( مارس 1972م ) ندوات ثلاثا ، حضرها من المملكة معالي وزير العدل ، وعدد من العلماء وأساتذة الجامعات.


ومن الجانب الأوروبي أربعة من أساتذة القانون الكبار:
الأول : وزير خارجية إيرلندا السابق ، والأمين العام للجنة الأوربية التشريعية.


والثاني : من المستشرقين ، ومن أساتذة الدراسات الإسلامية.


والثالث : من أساتذة القانون العام ، ومدير المجلة الدولية لحقوق الإنسان ، التي تصدر في فرنسا.


والرابع : من كبار المحامين في محكمة الاستئناف في باريس.

 

وفي وثائق الندوة ، أن الجانب الأوربي طرح مسائل عدة ، كان يعتبرها من جانبه من المسائل الحساسة ، ولكن الجانب السعودي استقبلها بترحاب ، وأبدى استعداده للإجابة عليها.

 

وموجز هذه المسائل

أولا :أن المملكة العربية السعودية ، تتخذ القرآن الكريم دستورا لها وأصلا لقوانينها ، وقد نزل القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا ، وهو ما يراه الجانب الأوروبي جديرا بالملاحظة.


ثانيا : ما نزل به القرآن من عقوبات الحدود ، كالقتل والقطع والجلد.


ثالثا : قضية المرأة.


رابعا : مسألة حظر التنظيمات النقابية ، وعدم وضع دستور ( نظام حكم( .


وتساءلوا ، عما إذا كان يوجد في المملكة محاكم استئناف ، وهو ما يعترض على عدم وجوده رجال القانون في العالم المعاصر.


كانت إثارة هذه المسائل ، فرصة للجانب السعودي ، أن يبرز المفاهيم الإسلامية الصحيحة أمام الأساتذة الأوروبيين.


وكان ذلك عملا دعويا متميزا.

 

إذ إن كثيرين من علماء الغرب ومفكريه ، يأخذون علمهم عن الإسلام وأركانه وعباداته وشعائره ومعاملاته ، ممن لا يعرفون حقيقة الإسلام ومفاهيمه الصحيحة وأهدافه السامية ، لا سيما في موضوعات يهتم بها الغرب أشد الاهتمام ، ولمجتهد في إقناع الناس بها ، بعيدا عن كل هدي إلهي.


فهم في موضوع حقوق الإنسان بالذات- كما ذكرنا من قبل- لا يجعلون للدين مكانا في هذه القضية ، ويعرضون عنه بالكلية.


فالحقوق عندهم ، قررها الإنسان لنفسه.


وعندما يعرض إشكال لا بد من عرضه ، وهو أن النظم القانونية كلها ، تعرف السلطة الأعلى التي تمنح الحق ، وتعرف من يتلقى الحق ويتمتع به.


بناء على ذلك يقال- وقد أشرنا إلى ذلك- : إن هذه الحقوق مصدرها ضمير الجماعة ، وكلمة الضمير كلمة غامضة ، أما ضمير الجماعة ، فهو الضمير الغائب فعلا ، والذي افترضه هؤلاء افتراضا.

 

وفي هذا اللقاء لشرح علماء المملكة مفهوم الدين عند المسلمين وعند غيرهم ، وميزوا فيه بين القواعد العامة الثابتة في الشريعة الإسلامية ، وبين الأحكام الجزئية والتفصيلية فيها ، وكشفوا عن أن الشريعة ، تحفظ المصالح الحقيقية للعباد في مضمونها وقواعدها ، وبينوا أن العقوبات الحدية على جرائم خطيرة وقليلة ، هي سياسة جنائية حكيمة تحفظ أمن الناس ، وتقلل إلى أبعد حد من انتشار الجريمة ، والاستهانة بأرواح الناس وأعراضهم وأموالهم.


هذا العمل الدعوى المهم ، الذي قام به علماء ودعاة مؤهلون ، لمواجهة فكر يتعارض مع أصول الدين الإسلامي وشريعته وقيمه ، كانت نتيجته ، أن أبدى الجانب الأوروبي إعجابه بما سمع عن الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان فيها.


وقال رئيس الوفد المستر ماك برايد : ( من هنا ومن هذا البلد الإسلامي ، يجب أن تعلن حقوق الإنسان لا من غيره ، وأنه يتوجب على العلماء المسلمين أن يعلنوا هذه الحقوق المجهولة على الرأي العام العالمي ، والتي كان الجهل بها ، سببا لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين والحكم الإسلامي).

 

كما قال أحد أعضاء الوفد : ( بصفتي مسيحيا ، أعلن أنه في هذا البلد ، يعبد الله حقيقة ، وأنه يوافق السادة العلماء ، في أن أحكام القرآن في حقوق الإنسان بعد أن سمعها ، ورأى الواقع في تطبيقها ، تتفوق بلا شك على ميثاق حقوق الإنسان( .!!
لقد ظهر في هذه الندوات جانب من الطابع المميز للنظر الإسلامي ، في موضوع حقوق الإنسان.

ثانيا : إن أي حق للإنسان في الإسلام باعتباره آدميا ، إنما يكون نتيجة لما تقرر في الأحكام الشرعية ، التي وردت في القرآن أو السنة النبوية ، وليس نتيجة تطور اجتماعي أو سياسي ، كما هو الحال في التفكير الغربي ، الذي بدأ يعرف ما يسمى بحقوق الإنسان في العصر الحديث ، بعد تطور طويل ، ونمو في الدراسات القانونية والاجتماعية والسياسية.


لقد ورد النص في القرآن الكريم على تكريم بني آدم . يقول الله تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } ( سورة الإسراء ، الآية 70( .

 

وبعد ذلك بقرون طويلة ، تضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نفس اللفظ ، إذ تبدأ ديباجة الإعلان بالاعتراف ( بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية( .



ثالثا : إن حقوق الآدمي في الإسلام- ولفظ الآدمي بذاته ينفي كل تفرقة تقوم على العرق أو اللون- وردت جزءا من الشريعة الإسلامية ، وترتبط ارتباطا وثيقا بالبناء العقدي والأخلاقي فيه.
فحقوق الآدمي ، مضمونة بالنصوص الشرعية التي تنص على الحق ، وعلى ضماناته ، بل وعلى الجزاء المقرر عند انتهاكه.


فالحق في الحياة مضمون : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } .( سورة الأنعام ، الآية 151
والجزاء مقرر عند انتهاك هذا النص:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى  (سورة البقرة ، الآية 178( .
وهو جزاء يوقع بشروط شرعية دقيقة مفصلة في كتب الفقه ، وهي شروط تضمن حق المجتمع وحق الفرد معا.


وكذلك ، فإن الحق في التكافل الاجتماعي منصوص عليه في قول الله تعالى: { فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ }{ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ( سورة المعارج ، الآيتان 24 ، 25( .

 

وفريضة الزكاة ، وهي ركن من أركان الإسلام ، بينت وحددت الأموال التي تخصص لتحقيق التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي ، وبين الله تعالى في القرآن الكريم ، الفئات التي تستحق أن يوفر المجتمع سبل معيشتها في قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ } ( سورة التوبة ، الآية 60( .
وهكذا في حقوق الآدمي التي وردت في الشريعة ، كالمساواة بين الناس.


إذ جعل القرآن الكريم معيار التفاضل بين الناس ، هو التقوى ، وهي خشية الله تعالى ، والالتزام بالعمل الصالح ، كما في كتاب الله ، وسنة نبيه ، نتيجة هذه الخشية : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }

 سورة الحجرات ، الآية 13

 

وحظر الإسلام تفاضل الناس على أساس العرق واللون

وعندما قال أحد الصحابة لرجل مسلم : ( يا ابن السوداء ) "شعب الإيمان للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ( ص288 / 4"(.وصف الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- هذا القول بأنه يدل على جاهلية ، أي على معايير وقيم سابقة على الإسلام ، لا تصلح إلا في مجتمعات التخلف والجهل  ووضع الصحابي الجليل خده على الأرض طالبا ممن أساء إليه بقوله أن يعفو عنه .



رابعا : لم تكن كرامة الآدمي في الإسلام ، منذ نزول القرآن ، شعارا عاما ، بل كانت نظاما تشريعيا داخلا في البناء العقدي والأخلاقي الإسلامي ، وأهم ما يميزه أنه يستند إلى نظرية عامة في هذا البناء

 
إن كرامة الإنسان ، وهي الحق الأصيل والمهم من حقوق الآدمي ، تستند في الإسلام إلى جملة أسباب  من أهمها:
أن الإنسان هو أكرم المخلوقات ، وأنه الكائن الذي تشرف بأن سواه الله بيده :
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ   سورة الحجر ، الآية 29 .


وعلمه الأسماء كلها:
 
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

سورة البقرة ، الآية 31.

 

والآيات في القرآن الكريم تدل على أن الإنسان أقوم المخلوقات ، من حيث أصل الخلقة وصورتها يقوله سبحانه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ( سورة التين ، الآية 4( .


وإن كان هذا الإنسان ضعيفا بحسب خلقته : { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } ( سورة النساء ، الآية 8.
لكنه المخلوق الذي له إرادة وعقل ، وهو الذي سخر الله له ما في السماوات والأرض : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } ( سورة الجاثية ، الآية 13  .


وفي العديد من الآيات في كتاب الله الكريم ، ذكر تسخير الله البر والبحر والنبات والحيوان لخدمة الإنسان ، بل إن الكون في سيره وانتظامه في الليل والنهار ، ودوران الشمس والقمر والنجوم والكواكب في أفلاكها ، إنما هو مظهر لنعم الله على الإنسان ، وآية من آيات قدرته.


فالكرامة التي وهبها الله لبني آدم ، ليست شعارا ، ولكنها بناء أصيل في الإسلام ، له مؤيداته وشواهده في كثير من نصوص الكتاب والسنة.


إنها كرامة الإنسان حين يولد ، وكرامته في العيش ، وكرامته حين يموت.

 

فالإنسان في الإسلام ، نعمة لأبويه حين يولد ، ونفس بشرية تستحق أن تحيا ، وتنال حقوقها في المجتمع الإنساني ، وهو يكرم حين يموت ، فيغسل ويصلى عليه ، ويدعو له الناس بالرحمة والمغفرة ، ويحظر الإسلام ، أن يمس جسد الإنسان إلا بحق ، ويحرم التمثيل بجسد الإنسان حتى وهو ميت لا يشعر بشيء ، وينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كسر عظام الميت ، احتراما لتلك الكرامة التي وهبها الله للآدمي منذ مولده وفي مسيرة حياته ، وحتى بعد موته.


فعن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « كسر عظم الميت ككسره حيا ») رواه أبو داود في كتاب الجنائز ، باب في الحفار يجد العظم ، هل يتنكب ذلك المكان ، 3191 ، قال الحافظ في بلوغ المرام ص 114 : وإسناده على شرط مسلم.


فالإسلام وحده ، سبق إلى تقرير تلك الكرامة قبل مواثيق البشر في صورة كاملة للكرامة الإنسانية ، يعرفها المسلمون منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام .


وهذا التكريم الإلهي ، عام لكل الناس ، بغض النظر عن العرق واللون والوضع الاجتماعي.


وقد نظمت الشريعة حقوق المعاهدين ، بحيث تكفل لهم حق الحياة وحرمة النفس والبدن والعرض والمال ، ما داموا قائمين على العهد في المجتمع الإسلامي ، أو كانوا مسالمين خارج المجتمع الإسلامي.


وتفصيل ذلك في آيات القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وما يبنى عليهما من بيان وتفصيل واجتهاد في كتب الفقه الإسلامي.

 

الفرق بين النظر الإسلامي والفكر الغربي في فكرة الحق

يكتسب التعبير في الوقت الحاضر ، قدرة إعلامية وسياسية عالية ، تؤثر في بحث المضامين ، والمفاهيم التي يتضمنها التعبير.


فالمسلمون لديهم تعبير حقوق الآدمي ، ولديهم أيضا تعبير حقوق الأمة ، وكذلك يتحدث المسلمون في وضوح منذ زمن بعيد ، عن حقوق الله وحقوق العباد ، وهي في حقيقة الأمر ، أصدق وأوفى في المضمون وفي المفاهيم من المصطلح العالمي : ( حقوق الإنسان( .


ولكن ذلك لا يمنع من استعماله ، وليس سببا في إهماله ، بشرط أن تتضح المفاهيم ، ويتميز المضمون أمام الناس.


فالمبادئ التي تتضمنها وثائق حقوق الإنسان ، لا مطعن على استحقاق الآدمي لكثير منها ، فلا يمكن من وجهة النظر الإسلامية ، إنكار حق الآدمي في الكرامة الإنسانية ، ولا حرمانه من الحق في الحرية ، والحق في المساواة ، وفي المشاركة الاجتماعية ، في المجتمع الذي يعيش فيه.


ولكن المطلوب إسلاميا ، أن تتضح المفاهيم في هذه المبادئ ، وأن تكون في صورتها التشريعية محررة.

 

فهذه الحقوق التي تأتي على رأس حقوق الإنسان في الزمن المعاصر ، تمثل مبادئ عامة وشعارات ، لا يمكن رد كثير منها بمجرد عرضها ، ولكن الخلاف يأتي في المدى الذي تصل إليه هذه الحقوق ، والمفاهيم التي تتضمنها.


هناك خلاف بين الفقه الإسلامي في جملته ، وبين النظر القانوني السائد في العالم ، حول فكرة الحق ذاتها.


فالحق عند المسلمين ، من أسماء الله تعالى ، وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن ، هو الأمر الثابت.


والمسلمون جميعا ، بمجرد إسلامهم ، يجب أن تتحرر إرادتهم من الخضوع لغير الله عز وجل ، ومن هنا تبدأ العبودية لله تعالى وحده.


وتنظم الشريعة مفهوم هذه الحرية ومجالاتها ، وشروط استعمالها ومداها ، بحكم الخضوع لله عز وجل ، وأمره ونهيه ، المتمثل في الشريعة الإلهية.


ومن المسلمات في النظر الإسلامي ، أن الله تعالى هو الخالق والبارئ ، والمالك لكل شيء ، وله الحكم : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } .( سورة الأنعام ، الآية 57(.


وبذلك ، فإن الحقوق كلها تقررها الشريعة ، وتبين مجالاتها ، وتحدد مداها ، ولا يوجد حق يُعترف به للمسلم ، إلا إذا أقرته له الشريعة ، في نصوصها أو أصولها وقواعدها الكلية.

 

ومدى هذه الحقوق وشروط استعمالها والمخاطب بها ومفاهيمها الواضحة ، لا تخرج عن نطاق الشرع.


هذا النظر بكل المجاز ، يختلف تماما عن الفكر الغربي ، الذي يحاول دائما عزل الدين عن الحياة ، بعد أن فصل الدين عن الدولة ، في المجتمعات والدول التي تأخذ بمبدأ العلمانية.


وهي بكل إيجاز أيضا ، لا تنظر إلى ما وراء هذا العالم ، فالحياة الإنسانية كلها ، هي الحياة الدنيا التي تتوجه إليها الأنظار والأفكار والأعمال.


ولسنا في حاجة إلى التساؤل ، عمن يمنح هذه الحقوق ، أو يحدد مداها ، أو يوضح مفاهيمها ، إنه الإنسان أيضا فهو من يملك السلطة.


وليس هناك داع - من وجهة النظر الغربية - لافتراض سلطة علوية تمنح هذه الحقوق لبني الإنسان.


فالإنسان هو الذي يمنح نفسه هذه الحقوق ، وهو الذي يبين مداها وشروطها ، وهو الذي يتمتع بها.

 

ولما كانت الحقوق كلها ، تتضمن أطرافا وموضوعا ، وكان لا بد من مانح للحق ومن متلق له ، فقد انتهت المدرسة الأوروبية الحديثة إلى القول- كما قدمنا - بأن هذه الحقوق ، تصدر عن ضمير الجماعة - أي الإنسان في مجموعه - وذلك بهدف جعلها تتمتع بإقرار الجميع لها واحترامها ، ويجري ذلك التصوير بطبيعة الحال ، بعيدا عن أي نظر ديني ، بل مع استبعاد النظر الديني عمدا.


والشريعة الإسلامية لدى المسلمين جميعا ، أساس الحق ومصدره ، وضمان وجوده في المجتمع.


وفي الفكر الغربي بالذات ، فإن الحق الذي يمنحه الإنسان لنفسه - الفرد المسيطر أو السلطة أو ضمير الجماعة - هو أساس القانون الذي يطبقه المجتمع.


وحين يرى المجتمع أو السلطة القائمة عليه ، أن الإنسان من حقه أن يمارس عملا ، أو يتمتع بحرية معينة ، يصبح ذلك قانونا ، ويصير حقا للفرد ، فالحق الذي يراه الإنسان لنفسه ، هو أساس النظام.

 

هذا الفكر ، هو الذي أدى في أحيان كثيرة ، وفي دول أوروبية متميزة بمقاييس العصر المادية ، إلى إباحة أنواع من التصرفات ، تأباها الفطرة الإنسانية والأديان السماوية كلها ، فأبيح الشذوذ الجنسي بين البالغين ( كما في إنجلترا ) ، وأبيح الزواج بين أفراد الجنس الواحد ( كما يسمح به في بعض البلاد الأوروبية الشمالية ) ، وجرت التسوية بين الأبناء من نكاح صحيح ، وبين الأبناء من سفاح.


هكذا رأى ضمير الجماعة ، ومن ثم صار قانونا توزن به ، وتقوم على أساسه حقوق الإنسان.


وسوف نعرض في الصفحات التالية وبإيجاز ، لمفاهيم أساسية لحقوق الإنسان من وجهة النظر الإسلامية ، وخاصة حق الحياة ، وسلامة البدن ، والعقل ، والعرض ، والحرية ، والمساواة ، والتكافل ، حتى يتبين اختلافها عن المبادئ والشعارات التي تطرح في الساحة الدولية والإعلامية ، باسم حقوق الإنسان.


فالإسلام يحدد حقوق الإنسان بمفاهيمها الصحيحة ، وضوابطها الشرعية ، التي تحقق كرامة الإنسان ، وتحفظ مصالح الفرد والمجتمع.


وهي مضمونة بالشرع وأحكامه ، لكل بني الإنسان على اختلاف الأعراق والألوان .

 

حق الحياة وسلامة البدن والعقل والعرض

يعتبر الإنسان في المفهوم الإسلامي ، أكرم الكائنات وأشرفها ، ومن أجله سخر الله ما في السماوات وما في الأرض ، ومنحه نعمة العقل والتفكير والتدبر.


فالكرامة الإنسانية ، تستند في الإسلام إلى نظرية متكاملة ، وهذا ما يميزها عن المفهوم الغربي القاصر.


إن أسباب تلك الكرامة ومضمونها ، واضحة في تسخير ما في السماوات والأرض لخدمة الإنسان.


ومن آثار هذه الكرامة ، أن حياة الفرد في قيمتها تكاد تتساوى مع حياة النوع البشري واستمراره ، يقول الله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } . سورة المائدة ، الآية 32


وتمنع كل التصرفات التي تنال من حق الحياة ، وسلامة البدن والعرض ، أو تنقص منه ، كتعذيب الإنسان ، والعدوان عليه في حياته ماديا أو معنويا ، وحتى التمثيل بجثته بعد وفاته ، ولو في الحرب ، إذ يمتد التكريم للإنسان إلى ما بعد وفاته.

 

ومن أجل الحفاظ على حق الحياة للإنسان ، لم يشرع القتال في الإسلام إلا من أجل الحق ، ودفاعا عن الحق ، وبعد الإنذار والإعلان.


وحرم الإسلام القتال طلبا للمغانم ، أو بدافع من التعصب القومي أو العرقي.


وفي الإسلام قيود على ممارسة أعمال الحرب ، فيحرم قتل غير المحاربين من النساء والأطفال وكبار السن والمنقطعين للعبادة ، ويمنع قتل من يقومون بالعمل بعيدا عن ساحة القتالة ، كالزراع ، ما داموا لا يشتركون في القتال.


ويحرم في الإسلام ، إتلاف الزرع وإهلاك الضرع ، حفاظا لأقوات الناس.



بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب مثلا عاليا في أخلاق القتال وآدابه ، حينما اعترض على أصحابه في قتل امرأة ، وقال : « ما كانت هذه لتقاتل (1) عون المعبود ، شرح سنن أبي داود 7 / 329 : كتاب الجهاد ، باب في قتل النساء ، وفي صحيح مسلم 3 / 1364 باب تحريم قتل النساء والصبيان : عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض المغازي ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان


وحينما أرسل إلى أهل مكة ، وهم في حالة عداء وحرب معه ، ما يعاونهم على القوت الضروري لهم
 صحيح البخاري، كتاب المغازي ، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال ( 4372 ) وصحيح مسلم ، كتاب الجهاد ، باب ربط الأسير وحبسه ( 59 ) وانظر القصة أيضا في السيرة النبوية لابن هشام ج 0 2 / ص 638 ، 639 ، وفي فتح الباري 8 / ص 87 ، 88.

 

ومن أجل الاحتياط والوقاية من شيوع الاعتداء على الحياة الإنسانية ، كان حكم القصاص ، قال تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } . ( سورة المائدة ، الآية 45 ) . قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .( سورة البقرة ، الآية 178) .)


وكل ذلك "بشروطه وضماناته المفصلة في الفقه الإسلامي.


ومن أجل حفظ النفس الإنسانية ، حرم في الإسلام أن يقتل الإنسان نفسه ، قال الله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } .( سورة النساء ، الآية 29  .)

 

وحرم أن يلقي الإنسان بنفسه إلى الهلاك ، قال الله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .( سورة البقرة ، الآية 195).


ومن الحفاظ على عقل الإنسان في نظر الشرع الإسلامي ، حرم الخمر ؛ لأنها تذهب بالعقل ، وتخل بالإدراك والتمييز ، وحظر كل ما يؤدي إلى ذهاب العقل ، أو إضعاف ملكات الإنسان الفكرية.


ولقد أدرك علماء المسلمين قدر نعمة العقل والإدراك وأثرها في حياة الإنسان .


ويدخل في حق الحياة وسلامة البدن والحواس والمشاعر ، أوجبه الله على المسلم ، من تجنب ما يضر به.


وحرم الله أشد التحريم ، تعذيب الإنسان المسلم أو انتهاك كرامته والحط من قدره ، حتى بالكلمة الجارحة أو السخرية منه ، قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } .( سورة الحجرات ، الآية 11).


وأوجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.


وتكفل أحكام الشريعة الحفاظ على كيان الإنسان كله ، النفس والجسد والعقل والمشاعر.

 

ولا يتسع المقام لتفصيل أوجه الحماية والحفاظ على كيان الإنسان ، الذي استخلفه الله في الأرض : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } .( سورة البقرة ، الآية 30).


وهي خلافة تكريم وتكليف وتشريف لبني الإنسان ، لعبادة الله وحده ، وتعمير الأرض بالحق والخير والسلام لبني الإنسان.

 

حرية الإنسان

لم تصبح الحرية تلك الكلمة التي تؤثر في الأفراد والجماعات في الغرب ، عقيدة راسخة في المجتمعات الغربية ، إلا بعد كفاح طويل ومرير دام عدة قرون .


ولم يتخلص الناس في أوروبا من استبداد حكام الإقطاع وسلطان رجال الكنيسة ، وجمودهم ، ووقوفهم في وجه كل نزعة للتحرر الإنساني ، والتقدم العلمي ، إلا بعد جهد كبير بذله كتاب وفلاسفة ، دام عشرات السنين.


ومع ذلك ، لم يتحدد معنى الحرية تحديدا واضحا حتى الآن.


وفي المفهوم الإسلامي ، تعتبر الشريعة أساس الحق ، وليس الحق أساس الشريعة .


فالحق في الحرية ، هو وسيلة كبرى لتحقيق غايات نبيلة وسامية ، تتفق مع كرامة الإنسان ورسالته في استخلافه في الأرض.


ومن أجل ذلك ، بدأ الإسلام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله عز وجل ، وتحريره من شهوات نفسه ونزوات غريزته.


فالحرية كما يرى علماء المسلمين ، هي قدرة الإنسان على التصرف ، إلا لمانع من أذى أو ضرر له أو لغيره.

 

وفي الإسلام يجب على الإنسان أن يتحرر من عبودية غير الله ، وسمى الله عبادة الإنسان غير الله طاغوتا ، وأمر الناس أن يكفروا به ، قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } .( سورة النساء ، الآية 65).

 

ولما كان الرق نظاما اقتصاديا عرفته كل الحضارات ، فقد سلك الإسلام وسيلة ناجعة للتخلص منه ، فضيق من موارده ، حتى اقتصرت على ما يكون منه في قتال مشروع ، مع جواز عدم اتباعه حتى في هذه الحالة ، ثم وسع أشد التوسعة في تحرير الأرقاء ، ولفظ "الرقيق " في ذاته ، يشير إلى رقة المعاملة لهم والإحسان إليهم ، ويجوز في الإسلام ، أن يتفق الرقيق مع سيده على عتقه نظير مال ، قال الله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } .( سورة النور ، الآية 33 ) . ويجب في الإسلام تحرير الرقيق جزاء على أخطاء يرتكبها الإنسان ، كالقتل الخطأ أو تجاوز بعض الشعائر الدينية ، حتى إن الهزل من السيد وتلفظه بعتق الرقيق خطأ أو هزلا ، ينتج أثره في تحرر الرقيق.


وهو ما لم تستطع تحقيقه شعارات الحرية الزائفة مع وجود الرق فعلا وحقيقة ، في مجتمعات تعرضت للغزو والنهب الاستعماري خلال القرن الماضي.


ومن قبل ذلك بقرون ، اختطف الغربيون مئات الألوف من أبناء أفريقيا ، ليعملوا لهم دون أجر في مزارعهم.


ويكفي أنه لم يبق في بلد إسلامي مجتمع له كيان ، أصله الأول الرقيق.

 

بينما لا يزال في الولايات المتحدة الأمريكية ، مجتمع الزنوج من عدة ملايين.


وفي القرآن الكريم ، دعوة إلى التفكر والتدبر ، وإعمال العقل والنظر في الكون ؛ بغية الوصول إلى معرفة السنن الكونية والاجتماعية ، والاعتبار بما وقع : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } .( سورة النمل ، الآية 69).


قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} .( سورة العنكبوت ، الآية 20).


وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو واجب المجتمع كله ، ولا بد من قيام أهل العلم والرأي به ، حتى يكون المجتمع قد وفى بواجبه الديني ، قال تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } .( سورة آل عمران ، الآية 104).


والمسلمون مطالبون بالتناصح والتشاور في أمورهم العامة.


يقول الله تعالى مخاطبا نبيه- عليه الصلاة والسلام- : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } .( سورة آل عمران ، الآية 159.

 

ويمتدح الله ، المجتمع المسلم الذي يكون من صفاته وآدابه الشورى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } . سورة الشورى ، الآية 38.


فلا حرج على المسلم ، أن ينصح لأولي الأمر ، كما في الحديث الشريف:
 
الدين النصيحة قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم 

 

 رواه مسلم في الإيمان برقم 95، وأبو داود في كتاب الأدب ، باب في النصيحة ، كلاهما عن تميم الداري ، ورواه الترمذي في أبواب البر والصلة ، باب في النصيحة 17 عن أبي هريرة ، والنسائي في كتاب البيعة ، باب النصيحة للإمام 31 ، عن أبي هريرة ، وتميم الداري

 

فالمشاركة بالرأي ، مكفولة بحكم الشورى ، الذي يجب على الأمة كلها أن تعمل به ، وتستطيع الأمة أن تقوم به بأي طريق يحقق فائدة التشاور والتناصح في الأمور العامة ، وفق توجيهات الإسلام وهديه.


لقد تقرر في الإسلام فيما يتعلق بالشورى أنه قيمة كبرى ، وترك تطبيقها بما يحقق الهدف منها إلى أهل الحل والعقد ، يختارون ما يرونه في شكلها ونظامها وإجراءاتها.


ولا حد لحرية الرأي والفكر في الإسلام ، إلا الحفاظ على أصول الدين وأركان الإسلام وقيمه وحدوده  ورعاية المصالح العامة.


فالاجتهاد مباح ومطلوب ، في أمور الدين والدنيا ، ولا ينكر منه إلا ما يهدم أصلا من أصول العقيدة أو التشريع ، أو يهدر قيمة خلقية من أخلاق الإسلام ، أو يقصد فتنة الناس وإضلالهم.

 

فحرية الرأي المنضبطة بضوابط الشرع ، تبني المجتمع الإسلامي ، وتصحح أخطاءه ، وتبصره بطريق الداية والفلاح في أموره العامة.


ولم تكن حرية الفكر والرأي ، مطلقة في أي مجتمع ، للذين يخرجون على ما تقرر من أصول الاعتقاد ومكارم الأخلاق ، مهما كانت معتقداتهم ، فالحرية المطلقة ، هي الفوضى المطلقة.


وتكفل الشريعة للرجل والمرأة على السواء ، ما تواضع علماء القانون على تسميته بالحرية المدنية.
إن أهلية المرأة كاملة ، وذمتها المالية من شأنها ، ولها أن تجري التصرفات المالية دون حرج ، وهي حرة في اختيار زوجها.


يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله- : ( إن البكر العاقلة الرشيدة ، لا يتصرف أبوها في أي شيء من مالها إلا برضاها ) زاد المعاد ( 5 : 97 ) طبع مؤسسة الرسالة بيروت 1407هـ. .


ولا شك أن التشريع الإسلامي الذي مضت عليه القرون الطويلة ، لم تصل إليه القوانين الوضعية الحديثة ، التي وضعت قيودا على أهلية المرأة في التصرف بعد زواجها.


إن الحرية قيمة كبرى في الإسلام ، تسمو بالإنسان في حياته المادية والروحية ، وليست انفلاتا مما في الإسلام من قواعد السلوك الاجتماعي أو الخلقي ، الذي يحفظ للمجتمع مصالحه وتماسكه.

 

وفي الإسلام لا حرية لأحد في نشر الفساد أو الرذيلة أو الفتنة في المجتمع ؛ لأن الحرية لا تنزل بصاحبها إلى الشر والإفساد ، ولا تبيح له أن يؤذي غيره ، أو يعرض المجتمع للخطر.


وكم قاست مجتمعات عديدة في العصر الحديث ، من الانفلات ، وإهدار الفضيلة ، وذبحها على مذبح الشهوات ، وإهدار كرامة النفس والجسد الإنساني باسم الحرية.


فالحرية حق للإنسان ، ولكنها مثل كل الحقوق ، لها وظيفة اجتماعية ، لا يجوز إهدارها ، ولا تجاوزها ، ولها ضوابطها وقيودها ومجالاتها.

 

المساواة

تعد المساواة بين الناس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات ، مبدأ أصيلا في الشرع الإسلامي ، ولم يكن هذا المبدأ على أهميته وظهوره ، قائما في الحضارات القديمة ، كالحضارة المصرية أو الفارسية أو الرومانية ؛ إذ كان سائدا تقسيم الناس إلى طبقات اجتماعية ، لكل منها ميزاتها وأفضليتها ، أو على العكس من ذلك ، تبعا لوضعها الاجتماعي المتدني.


وكانت التفرقة بين البشر في المجتمعات القديمة ، تستند إلى الجنس واللون ، والغنى والفقر ، والقوة والضعف ، والحرية والعبودية ، وكانت طبقة الحكام ورجال الدين من الطبقات المميزة ، بل إن بعض المجتمعات ، مثل المجتمع الهندي ، كان يعرف طائفة المنبوذين ، وكان محرما على أفراد الطبقة ، أن ينتقلوا منها إلى طبقة أعلى ، حتى ولو كانت ملكاتهم تتيح لهم ذلك.


وفي العصر الحديث ، رفعت الثورة الفرنسية سنة 1789 م ، شعار المساواة.


غير أن التجارب العملية ، تعلم الإنسان أن المبادئ والشعارات وحدها لا تكفي ، دون أن يكون هناك ما يحدد المضامين ، ويفتح طريق التطبيق ، ويفرض الجزاء عند المخالفة.


وذلك ما نجده في التشريع الإسلامي في مبدأ المساواة بين الناس.

 

فهي تسوية أصلية بحكم الشرع ، ومضمونها محدد ، وأساليب تطبيقها واضحة ، والجزاء عند مخالفتها قائم ، وهو جزاء دنيوي وأخروي.


إن التسوية بين البشر ، تعني التسوية بينهم في حقوق الكيان الإنساني ، الذي يتساوى فيه كل الناس.


أما التسوية الحسابية في الحقوق الفرعية التي تؤدي إلى المساواة بين غير المتماثلين ، فإنها معنى يختلف عن التسوية في الآدمية التي كرمها الله ، والتي تستند إلى مبادئ ثابتة وأصل واضح ، قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } . سورة النساء ، الآية 1  .

 

فالناس كلهم من نفس واحدة.


ويبين الحديث الشريف هذا الأصل في المساواة:

إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء ، مؤمن تقي ، وفاجر شقي ، والناس بنو آدم ، وآدم من تراب ، لينتهين أقوام عن فخرهم برجال أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن

 

  رواه الإمام أحمد في مسنده : جـ2 / ص 361 ، وأبو داود في سننه : كتاب الأدب ، باب في التفاخر بالأحساب ، والترمذي في سننه : كتاب التفسير ، باب ومن سورة الحجرات . والعبية ، بضم العين ، ويسر الباء المشددة ، وفتح الياء المشددة ، هي التكبر ، والنخوة.

 

 هذه قاعدة الإسلام الأصلية في المساواة ، كما تحددت في آيات القرآن الكريم ، وبينتها السنة المشرفة.


وحينما تختلف أحوال الناس ، وأوضاعهم ، وتختلف أزمنتهم وأمكنتهم ، ويوجد التنوع في الأجناس والألوان واللغات ، والغنى والفقر ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، ويختلف الموقع الاجتماعي والاقتصادي بين الناس ، حينذاك تفرض المجتمعات معايير للتفاضل بين الناس ، إزاء هذا التنوع والاختلاف.


ولا بد من وضع معيار للتفاضل ؛ لأن المساواة المطلقة لا تكون إلا في الكيان الإنساني ، والمشكلة تبدأ عند وضع هذا المعيار ، بحيث لا يخل بمبدأ المساواة في ذاته ، ويجعل التفاضل وسيلة نمو ورقي ، وليس ذريعة للظلم والتفرقة بين الناس.


وهذا ما جاء في الشرع الإسلامي ، فقد ترك كل المعايير السائدة للتفاضل ، كالقوة والضعف ، والموقع الاجتماعي ، أو الاقتصادي ، أو الطبقة التي ينتمي إليها الإنسان ، أو الجنس واللون.

 

فكل هذه المعايير ، كانت قائمة في المجتمعات القديمة ، حتى أنكر بعض الفلاسفة الأقدمين ، مبدأ المساواة ذاته ، مثل أفلاطون الذي قرر أن بعض الناس خلقوا ؛ للحكم والسيطرة ، وبعضهم خلق ؛ لكي يكون محكوما يعمل من أجل غيره.


وجاء في الإسلام معيار للتفاضل ، يتساوى أمامه الخلق جميعا على اختلاف الأجناس والألوان ، والحرية والعبودية ، إنه معيار التقوى ، قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .( سورة الحجرات ، الآية 13).


إن معيار التفاضل هنا ، يستطيع الارتقاء إليه كل البشر ، ولا يقسم الناس إلى طبقات يعلو بعضها بعضا ، وهو معيار يدفع إلى الرقي والسمو بالإنسان.


إن التقوى معيار الكرامة الإنسانية عند الله عز وجل ، ومع ذلك فهي معيار الصلاح في الدنيا ، وهو معيار حقيقي وعملي ؛ إذ إن صلاح الإنسان في دنياه ، يجعله أفضل لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه ، من غيره الذي لا يفيد نفسه ولا مجتمعه بشيء.

 

وقد هدم الدين الإسلامي بهذا المعيار الحقيقي الذي يرتقي بحياة الإنسان والمجتمع ، كل المعايير الزائفة ، التي أشار القرآن الكريم إلى الكثير منها.


يقول الله تعالى في الإنكار على أصحاب المعايير الزائفة في التفاضل:
 
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ  ( سورة الشعراء ، الآية 111).


مما يدل على أنهم لم يؤمنوا ؛ لأن مَن هم أقل منهم قد آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.


وقالوا:
 
أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ  . ( سورة البقرة ، الآية 13).

 

ولما طلب وجهاء قريش ومن كانوا يحسبون أنفسهم سادة قومهم ، من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد الفقراء والمساكين وضعاف الناس الذين التفوا حوله وآمنوا به ، كعمار بن ياسر ، وبلال ، بحجة أنهم يريدون أن يستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم لا يجلسون مجلسا يكون فيه هؤلاء محل الرعاية من الرسول الكريم ، نزل قول الله تعالى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } .( سورة الأنعام ، الآية 52).

 

وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى المساواة ، حين شفع وجهاء من القوم ، في إعفاء امرأة شريفة وجب عليها حد السرقة ، حتى لا توقع عليها العقوبة ، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ونبه إلى عدم جواز الشفاعة في حدود الله ؛ لأن ذلك يخل بمبدأ المساواة بين الناس ، ويؤدي إلى إيثار ذوي الوجاهة بإعفائهم من العقاب ، مع إقامة الحدود على ضعفاء الناس ، وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك الأمر إذا ساد في مجتمع أدى به إلى الزوال ، فقال:
«
إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد »

 

 رواه البخاري في صحيحه : كتاب أحاديث الأنبياء ، ومسلم في صحيحه: كتاب الحدود ، باب قطع السارق الشريف وغيره ، والنهي عن الشفاعة في الحدود ، واللفظ للبخاري

 

  ويعيب الرسول - صلى الله عليه وسلم- على أحد أصحابه الملازمين له على الحب والتلقي منه ، أنه عير صاحبا له بلونه ، فحين عير أبو ذر الغفاري بِلالا بلونه الأسود ، غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال للصحابي الجليل:
«
إنك امرؤ فيك جاهلية ».



رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان ، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها إلا بالشرك ، ومسلم في صحيحه: كتاب الأيمان ، باب إطعام المملوك مما يأكل ، وإلباسه مما يلبس ، ولا يكلفه ما يغلبه.

 

وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع:

لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى   الفتح الرباني ، ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 228 / 19 باب ما جاء في الترهيب من التفاخر بالآباء في النسب وغير ذلك.وأقامت الشريعة الإسلامية أصل المساواة في أحكامها ، على النحو الذي يجعل هذا المبدأ وسيلة لرقي الإنسان ، وتحصيل مصالح الحياة.


إن المرأة في الإسلام مكلفة مثل الرجل ، بما أمر الله به وما نهى عنه ، وإن جزاءها مثله ، قال الله تعالى
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }( سورة النحل ، الآية 97).


وكل من الرجل والمرأة ، له حقوق وعليه واجبات ، وهي حقوق وواجبات تكاملية ، تجعل من حقوق الرجل وواجباته ، وحقوق المرأة وواجباتها ، كلا متكاملا في وحدة واحدة ، تصلح بها حياة الأسرة.
فإذا كان من حق الرجل الطلاق ، فإن من حق المرأة الخروج من زوجية تضرها- بشروط معينة- ولها الحق في طلب التطليق إذا أضيرت من زوجها ، الذي لا يكون أمينا عليها.


ومن حقها العمل إذا احتاجت إليه ، أو احتاج العمل إليها ، كما في بعض المهن والأعمال المناسبة لها ، وفق ضوابط الشرع.

 

ولها أهليتها الكاملة وذمتها المالية المستقلة.


وهي كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم- :
 
إنما النساء شقائق الرجال   رواهأبو داود في كتاب الطهارة ، ورقمه 236 ( 161 / 1 ) والترمذي( 190 / 1 ).ومع التسوية في الكيان الإنساني ، ومع الحقوق والواجبات التي تتكامل في الأسرة ، ففي الإسلام دعوة إلى التوصية بالمرأة ، ومعاشرتها بالمعروف ، قال الله تعالى:
 
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .( سورة النساء ، الآية 19 ) وفيه نداء إلى الرجل ألا يسارع إلى كراهة امرأته ولو كان فيها بعض ما يعاب ، يقول سبحانه:
 
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } ( سورة النساء ، الآية 19).
وفي هذه التسوية التكاملية ، مصلحة المرأة والرجل ، ومصلحة الأسرة ، ثم المجتمع الإنساني.
وفي الإسلام يباح للرجل أن يعدد زوجاته إلى أربع ، مع القدرة على ذلك ، ووجوب العدل والتسوية بينهن.


والتعدد يفتح الباب لمراعاة امرأة لا يصح أن تترك في الحياة بلا معيل ، ولا مسؤول بها ، كما يغلق الباب أمام استغلال المرأة ، وجعلها مجرد أداة للمتعة واللهو ، دون تحمل للمسؤولية ، ودون الالتزام نحوها بشيء.

 

وهذا حال المرأة التي تقبل معاشرة غير مشروعة ، تكون هي الخاسرة في كل حال ، حيث لا التزام نحوها ممن يتخذها خليلة له ، ويتظاهر بأنه لا يعدد الزوجات.


والتعاون والتكامل بين الحاكم والمحكوم من القواعد الأساسية في الإسلام.


ويعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ، وهو أفضل الخلق ، مبدأ المساواة في أمثلة متعددة ، منها أنه لما كان يصفُّ أصحابه للقتال ، دفع بعصا صغيرة في يده رجلا خرج من الصف ، فلما شكا الرجل إليه ، كشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه الشريفة ؛ لكي يقتص منه الرجل ، فإذا به يهوي ليقبل جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان مبتغاه ومراده أن يمس جسد الرسول قبل أن يستشهد في القتال (1) رواه أبو داود : كتاب الأدب ، باب في قبلة الجسد ج 5 ص 394حديث 5224.  ولقد تعلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، يقول أبو بكر رضي الله عنه للناس:
 
إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ) (2) البداية والنهاية للإمام ابن كثير ج 6 ص 340.وهي مساواة لا تخل بحق الطاعة لولي الأمر ، الذي يرعى مصالح المسلمين.


فإذا كان من حق المحكومين التسوية في الحقوق والواجبات ، فإن من حق الحاكم الطاعة له في المنشط والمكره.


وهذا الحق ، أساسه الشريعة التي أعطت الحق في المساواة ، قال الله تعالى:.

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ( سورة النساء ، الآية 59).
وفي الإسلام تسوية بين البشر في الكيان الإنساني ، فالكرامة الإنسانية هي للآدمي ، يقول الله تعالى
 وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }( سورة الإسراء ، الآية 70).


ومال المعاهد والذمي ، لا يحل للمسلم إلا برضاه ، وعرضه مصون في المجتمع الإسلامي.
يقول توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام:
إن المسيحية نعمت بتسامح ملحوظ في ظل الحكم الإسلامي ، لم تعرفه منذ قرون طويلة).

 

ويمكن للذمي أن يعيش في المجتمع الإسلامي آمنا على نفسه وماله وعرضه ، بل ويتمتع بالبر الإحسان ، كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- حين أعطى شيخا من شيوخ أهل الذمة من بيت المال ، لما رأى حاجته ، وعجزه عن الكسب  انظر : أحكام أهل الذمة للإمام ابن القيم ج ا ، ص 38 ، 48 . طبع دار العلم للملايين بيروت.وكل ذلك من آداب التسوية بين الناس وقواعدها العامة ، وهي مستمدة من قول الله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } .( سورة الممتحنة ، الآية 8 )


تلك من أهم صور المساواة التي جاءت في الإسلام أصولها ومفاهيمها ، في قضايا مهمة من قضايا البشر : التفرقة العنصرية بسبب اللون أو الجنس ، وقضية المرأة وحقوقها في المجتمع الإسلامي ، وقضية التسوية بين الحاكم والمحكوم ، والعدل والمساواة في التعامل مع الذميين.


ولم تكن قواعد المساواة تلك ، معروفة في المجتمعات الإنسانية قبل الإسلام..

 

التكافل الاجتماعي

يرتكز التكافل الاجتماعي في الإسلام ، على بناء فكري متكامل ، له أساسه من العقيدة ، ومن المنظومة الأخلاقية الإسلامية ، فلم يكن تقرير هذا الحق للإنسان وليد تجارب بشرية فرضته فرضا ، كما هو الشأن في نظم الضمان الاجتماعي التي تسود الحالم الحديث.


فقد نشأت فكرة الضمان الاجتماعي في نهاية الحرب العالمية الثانية ، وروعي في تقريرها أن السلام الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق في حياة الشعوب إذا ترك الفرد يواجه محنه وشدائده وحاجته ، دون أن يشعر بأن المجتمع من حوله على استعداد لمد يد المعونة إليه وقت ضعفه ومحنته.


ولكن التكافل في الإسلام ، يمثل فكرة متقدمة ، تتجاوز مجرد التعاون بين الناس ، أو تقديم أوجه المساعدة وقت الضعف والحاجة.

 

ومبناه ليس الحاجة الاجتماعية التي تفرض نفسها في وقت معين أو مكان بعينه ، وإنما يستمد التكافل الاجتماعي في الإسلام مبناه من مبدأ مقرر في الشريعة ، وهو مبدأ الولاية المتبادلة بين المؤمنين في المجتمع ، يقول الله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .( سورة التوبة ، الآية 71).


فهذه الولاية المتبادلة ، لها مسؤولياتها وتبعاتها في الجوانب المادية والمعنوية من حياة الإنسان ، والولاية لها معان متعددة ، فهي تتضمن معاني الهيمنة والقدرة والتساند والتعاضد.


فالإنسان في التصور الإسلامي ، لا يعيش مستقلا بنفسه ، منعزلا عن غيره ، وإنما يتبادل مع أفراد المجتمع الآخرين الولاية ، بما تعنيه من الإشراف والتساند والتكافل في أمور الحياة ، وفي شؤون المجتمع.


والتكافل في الإسلام ، يعني التزام القادر من أفراد المجتمع تجاه أفراده.

 

ومن أوضح الأحاديث النبوية في الدلالة على هذا المعنى ، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له »  رواه مسلم : باب استحباب المواساة بفضول المال 1354 / 3.


يقول راوي الحديث : إن الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- أخذ يعدد من أنواع المال حتى حسبنا أن لا حق لنا في الفضل.


فالتكامل في الإسلام ، يتجاوز التعاون المتبادل لمصلحة ، إلى معنى العون بلا مقابل ، سوى أداء الواجب والرجاء في ثواب الله عز وجل.


وهذا العون متى احتاج إليه الإنسان كان لازما على المجتمع المسلم أن يقوم به ، ولو كان احتاج غير مسلم ، باعتباره آدميا يعيش في مجتمع لا يهدر كرامة الإنسان بسبب الضعف والحاجة.


فقد عاون الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الفقراء والمحتاجين من أهل الذمة الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي (2) انظر : أحكام أهل الذمة للإمام ابن القيم ، ج 1 ، ص 38 ،48.، وجرى على ذلك ولاة الأمور من المسلمين ، فلا تكليف ماليا على غير المسلم منهم فوق قدرته إذا ثبت فقره وحاجته ، كما أنه يعان ماديا حتى تحفظ حياته.


هكذا فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل أن يتحدث أحد عن الضمان الاجتماعي ، بألف وأربعمائة عام.


والمؤمنون إخوة ، يقول الله تعالى:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  .( سورة الحجرات ، الآية 10).


وهم أولياء بعض.


وقد حث الله على الإنفاق والصدقة وإعانة المحتاج ، ودعا إلى الوفاء بحق المحتاج باعتباره حقا واجبا ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ }{ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } ( سورة المعارج ، الآيتان 24 ، 25).


وذلك يضع الأساس للتكافل الاجتماعي باعتباره حقا من حقوق الإنسان.


وإلى جانب ذلك مجموعة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، تجعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وتصور المسلم كأنه عضو أخيه المسلم ، يشتكي لشكواه ، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم- مسؤولية المجتمع عن كل فرد محتاج فيه ، في عبارة قوية في إنذارها للفرد والمجتمع : « ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه  رواه البخاري في الأدب المفرد ( 112 ) والطبراني في الكبير ( 3 / 175 / 1 ) والحاكم في المستدرك ( 4 / 167 ) وقال : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي..


ويصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تحميل المجتمع ومن يقوم عليه مسؤولية الضعيف والمحتاج ، إلى مدى لا ينال حتى في هذا العصر ، عصر حقوق الإنسان المزعومة.

يقول الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- : من ترك مالا فلأهله ، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي   أخرجه البخاري في كتاب الكفالة بلفظ : ( فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالا فلورثته . ومسلم في كتاب الفرائض باب من ترك مالا فلورثته.

 

 إنه التكافل الذي يلتزم به المجتمع ، ويؤديه ولي الأمر نحو الأيتام والضعاف من الناس ، حتى لا يضيعوا في الحياة.


وإذا كان لا بد من تحديد الحقوق ، حتى لا يصبح الحق شعارا يتردد فحسب ، فقد بين الشرع الإسلامي صور التكافل ، وحدد مسؤولية القادرين عليه من أفراد المجتمع.


تظهر الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام ، وفريضته الاجتماعية ، أول صور التكافل الاجتماعي في الإسلام ، وهي فريضة على كل مسلم ، وهي حق مقدر بتقدير الشارع الحكيم في المال بشروط معينة ، وهي تدل على معنى أخص من الصدقة التي لا تتحدد بمال معين أو قدر بذاته.

 

فالصدقة متروكة لاختيار الأفراد في قدرها ، وفيمن توجه إليه من المحتاجين ، وذلك على خلاف الزكاة التي فرضها الله في أنواع المال التي حددها الشارع ، وبين نصاب كل نوع ، ومقدار الزكاة فيه ، فالخمس ( 20% ) في الركاز ، وهو ما وجد مدفونا من أموال الجاهلية ، على اختلاف أنواعها ، وربع العشر ( 2.5 % ) في كل من النقدين الذهب والفضة ، ويأخذ حكمهما الأوراق النقدية ، وفي عروض التجارة ، والمعادن ، وهي ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها ، مما له قيمة ، سواء أكان جامدا كالذهب والفضة وغيرهما ، أم كان سائلا كالقار ، والنفط.


كما أوجب الله الزكاة في الخارج من الأرض من الزروع والثمار بمقدار العشر ( 10 % ) إذا كان يسقى بغير مشقة ولا مؤنة ، كالذي يشرب من السماء والأنهار ، وبمقدار نصف العشر ( 5% ) إذا كان مما يسقى بمشقة ومؤنه ، كالذي يسقى بالدواب ، والآلات.


وتشمل الزكاة المفروضة بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم ، إذا بلغت نصابا معلوما ، بمقادير محددة في كتب الفقه الإسلامي.

 

وقد أصلحت الزكاة ميزان تداول المال في المجتمعات الإنسانية ، فقد كان تداوله في المجتمعات القديمة يجري على النقيض من العدل والتكافل.


كان الفقراء يكدحون ؛ لكي تتراكم الثروة لدى الأغنياء وأصحاب السلطان ، فعدل الإسلام الميزان ، وجعل القادر ، هو الذي يؤدي للمحتاج والفقير فريضة من الله ، والله عليم حكيم.


وأحكام الزكاة في المال ، مفصلة في كتب الفقه ، ولا يقتضي المقام تفصيلها.


ومن أهمها ، أن جمع الزكاة وإنفاقها في مصارفها ، مسؤولية ولي الأمر في المجتمع.


وحدد الإسلام تحديدا واضحا من تدفع إليه الزكاة ، ويكفي أن نذكر في ذلك الآية الشريفة:
 
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .( سورة التوبة ، الآية 60).


وهي مصارف تجمع أصحاب الحاجة بجميع صورها ، وفي كل أوقاتها وظروفها.

 

وإلى جانب فريضة الزكاة في المال ، شرعت زكاة الفطر ؛ لتقيم التكافل بأجلى صوره في يوم العيد بعد صيام شهر رمضان ، وهي تجب على من يملك قوت يومه وليلته ، ومقدارها زهيد يستطيع كل من يؤديها ، أن يشعر بقدرته على الإسهام في التكافل الاجتماعي ، وأداء هذا الحق لمن يستحقونه.


ومن صور التكافل الاجتماعي في الإسلام ، ما شرعه الله من وجوب نفقة الأقارب الفقراء على القريب الغني ، فنفقة الزوجة على الزوج ، والأبناء على الأب ، ونفقة الوالدين الفقيرين على الولد القادر ، ونفقة الأخ الفقير أو المحتاج على أخيه الذي يرثه ، وقد وسع بعض علماء المسلمين في شأن نفقة الأقارب ، حتى تصل إلى ذوي الأرحام.


ومن صور التكافل الاجتماعي ، أحكام الديات في القتل الخطأ ، فإن الدية تجب لورثة القتيل ، وقد يكونون صغارا ، فتعينهم على مواجهة الحياة بعد فقد مورثهم.


ويتشارك أقرب العصبة إلى القاتل خطأ في دفع الدية إلى ورثة المقتول.


والدية هنا ، تمثل ضمانا من المجتمع لورثة المقتول ، فلا يضيع دم إنسان هدرا في مجتمع مسلم.
ولا يقتصر التكافل الاجتماعي في الإسلام ، على الجوانب المادية فحسب ، بل يمتد إلى ما يعد تعاونا شاملا على البر.

 

فمن التوجيهات في الإسلام ، ألا يكتم الإنسان علمه النافع عمن يحتاج إلى التعليم ، ولا يبخل الإنسان بنصحه على من يحتاج للنصح والإرشاد ، فالدين النصيحة ، كما ورد في الحديث الشريف.


ولا تكاد توجد حالة ضعف أو محنة ، يتعرض لها الفرد في المجتمع الإسلامي ، إلا ويجد توجيهات في الإسلام تدعو القادرين إلى مد يد المساعدة إليه ، أو توجب عليهم هذه المعونة ، مالا أو نفعا ، أو حتى مواساة وشفقة ورحمة.

 

المملكة العربية السعودية وحقوق الإنسان

هناك خصوصية تميز العالم الإسلامي في الجملة ، عن مختلف دول العالم في مجال حقوق الإنسان ، وتنبع هذه الخصوصية من اختلاف المجتمعات الإسلامية عن غيرها من المجتمعات ، في المنطلقات والمفاهيم ، وفي التكوين الفكري والثقافي المميز للشعوب الإسلامية عامة.


إن الإسلام- منذ عصر النبوة- هو الذي صاغ العقل المسلم والفكر الإسلامي على امتداد القرون ، ويمثل الوحي الإلهي ، جانبا كبيرا من عقل المسلم وفكره ، ومصدرا من أهم مصادره للعلم والمعرفة ، إلى جانب ما هيأه الله له من مصادر المعرفة الأخرى.


بينما لا يمثل الوحي الإلهي ، جانبا ذا بال في الفكر الغربي في العصر الحديث بالذات ؛ ولذلك جرى تهميش الدين في الحياة الغربية بوجه عام ، ولم يعد الوحي الإلهي مصدرا يقينيا وثابتا للمعرفة الإنسانية ، بل إن الدين عرف في الموسوعة الفرنسية بأنه : " كل سلطة أو معرفة تتعارض مع العلم" .


واستقرت الحضارة الغربية في العصر الحديث ، منذ القرن السادس عشر الميلادي على منطلقات فكرية بشأن الدين ، كان من نتيجتها مبدأ فصل الدين عن الدولة.

 

وهذا المفهوم للدين ، بل والعداء له ، بعيد تماما عن تفكير المسلم فردا أو جماعة ؛ إذ يعتبر المسلم المحافظة على الدين ، أهم مقاصد الحياة ، وأولى ضروراتها التي ينبغي الحفاظ عليها ، إضافة إلى أن المنظومة الخلقية الإسلامية ، تظل عند المسلمين ، هي المثل الأعلى والضابط للقيم والسلوك الاجتماعي ، وتظل أصول الشريعة ونصوصها ، هي النظام التشريعي للمجتمع في علاقاته كلها ، الأسرية والاجتماعية.


ومهما كانت درجة الالتزام والاتباع الفردي أو الاجتماعي ، فإن ذلك لا يغير من الإيمان بقدسية الدين وضرورته ، وصلاحية الشريعة وقدرتها ، على إصلاح الفرد والمجتمع في كل زمان ومكان.


وتعتبر المملكة العربية السعودية ، نموذجا للخصوصية الإسلامية في التزام العقيدة ، وفي تطبيق الشريعة ، وفي التمايز الفكري والاجتماعي على هدي الإسلام.


ذلك ، أن المملكة تتشرف بأنها تضم أهم مقدسات المسلمين ، الكعبة المشرفة ، أول بيت وضع للناس ، والمسجد الحرام في مكة المكرمة ، ومسجد الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- في المدينة النبوية.

 

وفي أرض المملكة ، كانت أول أمة للإسلام ، وقامت أول دولة له في عصر النبوة ، وكانت هذه الأمة ، خير أمة أخرجت للناس ، كما قال الله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } .( سورة آل عمران ، الآية 110  .)


وكانت دولة الإسلام في نشأتها الفريدة على هدي القرآن ، وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، المثل الأعلى والنموذج الكامل لكل دولة إسلامية ، تظهر في كل زمان ومكان بعد عصر النبوة ، إلى آخر الدهر.


والخصوصية التي أشرنا إليها ، والتي تميز العالم الإسلامي في موضوع حقوق الإنسان ، أشد ما تكون ظهورا ووضوحا في المملكة العربية السعودية.

 

فمنذ نشأة الدولة السعودية في العصر الحديث ، بداية من عهد مؤسسها الإمام محمد بن سعود رحمه الله عام 1157 هـ ، إلى توحدها في عهد ، الإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، رحمه الله في القرن الرابع عشر الهجري ، العشرين الميلادي ، وإلى وقتنا الحاضر ، وهي قائمة على اتباع شرع الله تعالى ، وإنفاذ أحكامه في جميع أمورها.


فالكتاب والسنة ، هما الحاكمان على سياسات المملكة وتنظيماتها.


وقد حافظت المملكة منذ نشأتها ، على اتخاذ الشرع حاكما وموجها وضابطا لكل أنظمتها التي اقتضتها حركة النمو والتطور ، التي صاحبت توحيد المملكة العربية السعودية ، ثم نهضتها وعلو مكانتها في المجتمع الدولي.


والتزام المملكة بشرع الله على هذا النحو ، يظهر الخصوصية الإسلامية بكل وضوح أمام المجتمع الدولي ، ويجعلها النموذج الذي ينظر إليه في العلاقات الدولية بين العالم الإسلامي والعوالم الأخرى.


وبسبب التزام المملكة بتطبيق أحكام الشرع ، المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفق منهج متكامل في المملكة ، فإن مكانتها في العالم الإسلامي ، وفي نظر المجتمع الدولي ، مستمدة من الإسلام ذاته.

 

ففيها ، أول بيت وضع للناس ، وبعث في أرضها رسول الإسلام وخاتم الأنبياء والمرسلين- عليه الصلاة والسلام- وانتشر هديه ونوره من أرضها ، وأقيمت فيها دولة الإسلام الأولى.
فالإسلام ، أعطى المملكة كل مقوماتها.


والتزام المملكة اليوم بتطبيق شريعته ، أعطاها في المجتمع الدولي قيمتها ومكانتها.


ونتناول في الصفحات التالية حقوق الإنسان في النظام الأساسي للحكم في المملكة ، وفي بعض أنظمتها الخاصة ، بما يظهر الخصوصية الإسلامية عامة ، ويكشف عن التزام المملكة خاصة بأحكام الشرع الإسلامي ، وفق كتاب الله الكريم ، وسنة نبيه المطهرة.

 

حقوق الإنسان في النظام الأساسي للحكم والأنظمة الأخرى في المملكة

صدر النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية ، بمقتضى الأمر الملكي الموسوم بالرقم أ / 90 في 27 / 8 / 1412هـ.

 

وهو النظام الذي يوضح شكل الدولة ، ونظام حكمها ، ويحدد سلطاتها ، ويبين الحقوق والواجبات لمواطنيها ، والمقومات الاجتماعية ، والمبادئ الاقتصادية ، التي يسير عليها المجتمع والدولة.


فهو بإيجاز ، نظام المملكة الذي تلتزمه سلطاتها ومؤسساتها ، في سعيها الدائم إلى حفظ الدين ، عقيدة وشريعة ، وتحقيق مصالح الناس ، والوفاء بحقوقهم التي أوجبها الشرع ، وضمان أمنهم ورخائهم على أرض المملكة.


وفي كلمة خادم الحرمين الشريفين ، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ، بمناسبة صدور النظام الأساسي للحكم لإخوانه وأبنائه المواطنين ، تبرز الأسس والمبادئ التي أقيم عليها نظام الحكم في المملكة.


فقد أقيم على الإسلام عقيدة وشريعة ، وعلى المنهاج الصحيح في فهم أحكامهما .


وبذلك - كما قال خادم الحرمين الشريفين - كانت المملكة ، نموذجا متميزا في السياسة والحكم في التاريخ السياسي الحديث.

 

ولم تأت صياغة نظام الحكم في المملكة من فراغ ، بل كانت توثيقا لشيء قائم ، وأمر واقع معمول به ، عماده الشريعة التي استمر تطبيق أحكامها قرونا عديدة ، وظهر الالتزام الكامل بها ، منذ قامت الدولة السعودية الأولى.


إن الدستور في المملكة ، هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- إليهما يحتكم ، وإليهما يرجع في كل شيء يختلف فيه.


إن السيادة والسلطة العليا في المملكة العربية السعودية ، هي لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهما مصدر السلطة فيها ، كما تصرح بذلك المادة السابعة من نظام الحكم.


فالسلطة أو السيادة - في النظر غير الإسلامي - للحاكم أو الدولة ، أو لسلطة من السلطات البشرية.


لكن هذه السلطات في المملكة ، تخضع لحكم الله عز وجل في الكتاب والسنة.


وفي المادة الثامنة من النظام الأساسي ، يقوم الحكم على أساس العدل والشورى والمساواة ، وفق قواعد الشريعة الإسلامية.


وتحقيق هذه المبادئ ، يتم وفق المرجع الأعلى ، وهو الكتاب والسنة.


فهي ليست شعارات تطلق ، ثم يبحث لها الناس عن معنى ومرجع ومفهوم ، تختلف فيه الآراء والأهواء والعقول.

 

وفي مجال حقوق الإنسان التي أوردتها المواثيق الدولية ، وأهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 م ، واتفاقيتا الحقوق المدنية والسياسية ، والاجتماعية والاقتصادية ، الصادرتان سنة 1966 م ، واللتان بدأ العمل بهما سنة 1976م.


نرى أن النظام الأساسي للحكم في المملكة ، نص على أكثر مما نصت عليه تلك المواثيق من مبادئ.


لقد أوردت المواثيق الدولية ، مفردات عديدة من الحقوق ، تحت هذه المبادئ ، مستمدة كلها من واقع المجتمعات الغربية وظروفها وتراثها التاريخي والديني والاجتماعي.


غير أنه تبقى ميزة الشرع الإسلامي ، الذي استمد منه النظام الأساسي للحكم في المملكة ، في أنه يفتح الباب لكل الحقوق التي تبيحها الشريعة ، والتي تندرج تحت مبادئ الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة والتكافل الاجتماعي والشورى.


ولكل هذه المبادئ ، مرجع يوضح ، ويحدد مفاهيمها الصحيحة على المستوى الإنساني كله.


إن المرجع هنا ، وهو شريعة الله ، يحدد الحقوق ، ويوضح المفاهيم ، ويستبعد الزائف ، ويستبقي الصالح.

 

ففي الباب الثالث من نظام الحكم ، الذي يتعلق بمقومات المجتمع السعودي ، تظهر قيمة الأسرة في النظر الإسلامي نواة للمجتمع ، حيث يربى أفرادها على أساس العقيدة الإسلامية ، والولاء والطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر ، واحترام النظام ، وتنفيذه ، وحب الوطن والاعتزاز به ( م9).


وتحرص الدولة على توثيق روابط الأسرة ، والحفاظ على قيمها العربية والإسلامية ( م10).


ويهدف التعليم إلى غرس العقيدة في نفوس النشء ، وإكسابهم المعارف والمهارات ( م13).


وفي المبادئ الاقتصادية ، نص النظام الأساسي للحكم ، على حرمة الملكية الخاصة ، ومنع الاستيلاء عليها إلا للمصلحة العامة ، ومقابل تعويض عادل( م 18).


وحظرت المادة 19 مصادرة الأموال مصادرة عامة ، ولا تكون المصادرة الجزئية عقوبة على جريمة إلا بحكم قضائي.


وأمر مهم في شأن الضرائب والرسوم التي تفرضها الدولة ، فإن النظام في المملكة يتفوق على غيره في دول العالم كافة ، فالضرائب والرسوم في معظم الدول من إطلاقات الدولة ، تفرضها بحسب ما تراه.


أما في المملكة ، فلا تفرض إلا عند الحاجة ، وعلى أساس العدل ، وهو أعدل وأكثر يسرا على المواطنين.

 

وأما الزكاة ، فقد نصت المادة الحادية والعشرون ، على أنها تجبى ، وتنفق في مصارفها الشرعية.


فالمواطن السعودي ، آمن بحكم الشرع من المظالم المالية التي تعانيها شعوب كثيرة في العالم.


وفي الباب الخامس من النظام الأساسي للحكم المتعلق بالحقوق والواجبات ، نصت المادة السادسة والعشرون ، على أن تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية.


وهو نص رئيس ، يؤكد أهمية هذه الحقوق ، والتزام الدولة بالوفاء بها.


وجاءت النصوص التالية لهذا النص الرئيس ، الذي أشار إلى حقوق الإنسان ضمن باب الحقوق والواجبات ، بمفردات حقوق الإنسان التي وردت في الشريعة الإسلامية ، قبل المواثيق الدولية بألف عام على الأقل.


في حين أن كثيرا من الدساتير المعمول بها في دول عديدة ، لا تتضمن مثل نص المادة السادسة والعشرين ، التي جعلت حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية ، من حقوق المواطن.


إن مفردات حقوق الإنسان التي وردت في النظام الأساسي للحكم ، تشمل الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية ، وتزيد عليها في بعض الحقوق ، التي تلتزم بها الدولة تجاه المواطنين.

 

إن الدولة ، تكفل حق المواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة ، وتدعم نظام الضمان الاجتماعي ( م 27  .(


وهو نظر إسلامي أصيل ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ، من حيث المبدأ والتطبيق.


والدولة تيسر مجالات العمل لكل قادر عليه ، وتسن الأنظمة التي تحمي العامل وصاحب العمل ( م 28( .


وهو تطبيق أمين لمبادئ الشرع الإسلامي.


وفي نظام العمل والعمال في المملكة ، تفصيل لأوجه عديدة من وجوه حماية العامل في أجره وصحته ، وأمنه من الفصل التعسفي.


وخصص فصل في النظام ، لمكافحة البطالة التي نهى الشرع عنها.


والدولة ترعى العلوم والثقافة والآداب ، وتعنى بتشجيع البحث العلمي ، وتصون التراث الإسلامي والعربي ، وتسهم في الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية ( م 29).


وتوفر الدولة التعليم العام ، وتلتزم بمكافحة الأمية ( م 30).


وهو تطبيق إسلامي لما ورد في القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، من الحض على العلم ، ورعاية أهله ، وتيسير طرقه أمام الناس.


وهذه النصوص ، تشمل الصالح من الحقوق الثقافية التي وردت في المواثيق الدولية ، وتزيد عليها.

 

وفي المادة الحادية والثلاثين ، تعنى الدولة بالصحة العامة ، وتوفر الرعاية الصحية لكل مواطن.


وهذه من الحقوق الاجتماعية الرئيسة للإنسان.


وزاد النظام الأساسي للحكم ، حقا للمواطن ، والتزاما على الدولة ، بالمحافظة على البيئة وحمايتها وتطويرها ، ومنع التلوث عنها ( م 32  .(


وهو نص مستحدث على مستوى دساتير العالم كله ، اقتضاه التطور العلمي لعلوم البيئة وارتباطها بالصحة العامة ، وسارعت المملكة إلى إدراجه في النظام الأساسي للحكم ، حقا من حقوق المواطن في أرض صالحة وهواء نقي وماء طهور.


وفي القرآن الكريم ، نهي عن الفساد في البر والبحر.


وفي السنة النبوية ، توجيهات شريفة تحمي المكان وطعام الإنسان وشرابه وصحته من الفساد.


وفي المادة السادسة والثلاثين ، تلتزم الدولة بتوفير الأمن لجميع مواطنيها والمقيمين على إقليمها ، ولا يجوز تقييد تصرفات أحد أو توقيفه أو حبسه إلا بموجب أحكام النظام.


وهو نص يرد عادة في كل دساتير الدول المتمدنة.


وفي المادة السابعة والثلاثين ، نص النظام الأساسي للحكم ، على أن للمساكن حرمتها ، ولا يجوز دخولها بغير إذن صاحبها ، ولا تفتيشها إلا في الحالات التي يبينها النظام.

 

وفي المادة الثامنة والثلاثين ، نص على قاعدة شرعية تأخذ بها دساتير الدول المتمدنة : العقوبة شخصية ، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نظامي ، ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي.

 

وهذه النصوص ، تعد أصولا كبرى في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.


والمبادئ الواردة في النصوص الثلاثة سالفة الذكر ، تطبيق أمين لكتاب الله الكريم وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- .


يقول الله تعالى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى  ( سورة النجم ، الآية 39  .


ويقول سبحانه:
 
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }  سورة الإسراء ، الآية 15  .


ويقول جل شأنه:
 
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } .( سورة الإسراء ، الآية 15( .


وفي القرآن الكريم في حرمة المساكن ، نهي عن دخولها إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها ، وفي قول للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه- قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة عام- يجمع الضمانات التي نصت عليها المواد الثلاث المذكورة قبل:
والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول )

 

 رواه مالك في الموطأ في كتاب الأقضية ، باب ما جاء في الشهادات ( 1400 ( .

 

وهذه الضمانات نظرا لأهميتها ، أوردها النظام الأساسي للحكم في المملكة.


وكل الأنظمة التي تصدر تفصيلا لأحكامها ، ينبغي أن تتقيد بهذه المبادئ الإسلامية.


وفي مجال التعبير والرأي والاتصال ، نص النظام الأساسي للحكم ، على التزام وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير ، بالكلمة الطيبة وبأنظمة الدولة.


وحظرت المادة التاسعة والثلاثون ، ما يؤدي إلى الفتنة والانقسام ، أو يمس بأمن الدولة وعلاقاتها العامة ، أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه ، وتبين الأنظمة كيفية ذلك.


كما تصون المادة الأربعون ، حرمة المراسلات البرقية والبريدية والمخابرات الهاتفية ، فلا تجيز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو تأخيرها أو الاستماع إليها ، إلا في الحالات التي يبينها النظام.


والضوابط التي وضعتها المادتان السابقتان لحرية التعبير ، ضمانات معترف بها في النظم القانونية العالمية.


ولكنها في النظام الأساسي للحكم في المملكة تستهدي بأصلها في القرآن الكريم ، وبأحكام الشريعة التي تنهى عن الفتنة:
 
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ  .( سورة البقرة ، الآية 217( .


وتحض على الوحدة والاعتصام بحبل الله:

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .( سورة آل عمران ، الآية 103( .


كما أن الشرع يحمي خصوصية الإنسان وأسراره ، ويصونها عن الابتذال ، لا سيما ما يتعلق بشؤون أسرته التي تتناولها وسائل التراسل والاتصال.


وينهى الشرع عن التجسس عامة:
 
وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ.( سورة الحجرات ، الآية 12( .


ولا يباح ذلك إلا لحماية حقوق المجتمع أو الغير ، كما ورد في النظام الأساسي للحكم.


والمرجع في إقرار الحق للناس ، وفي تحديد مفهومه وضوابطه ، هو شرع الله عز وجل ، كما في الكتاب والسنة.


وينص النظام الأساسي للحكم ، على استقلال السلطة القضائية في المملكة ، ولا سلطان على القضاة في قضائهم إلا للشريعة الإسلامية ( م 46( .
وحق التقاضي ، مكفول للمواطنين والمقيمين ( م 47( .
والملك ومن ينيبه ، معنيون بتنفيذ الأحكام القضائية ( م 55( .

 

واستقلال السلطة القضائية ، وعناية الملك ومن ينيبه بتنفيذ أحكامها ، يعد ضمانة مهمة لإنفاذ حقوق الإنسان ، التي نص عليها النظام الأساسي للحكم ، إذا تعرضت للانتهاك أو الانتقاص.


إن ميزة حقوق الإنسان التي نص عليها النظام الأساسي للحكم في المملكة ، أنها قواعد شرعية وأحكام نظامية واضحة ومحدده المعالم والمفاهيم ، وليست شعارات ومبادئ براقة ، يدخل تحتها بفعل الأهوال والمفاهيم الزائفة ، ما يضيعها ، وما يجعلها تضر بالمجتمع والإنسان المسلم.


فحقوق الإنسان في الشرع الإسلامي ، تؤدى بمفاهيمها الصحيحة إلي رقيه ، وتقدمه ، وجدارته بعمارة الأرض.

 

الخاتمة

وأخيرا : فإن هذه الخصوصية الإسلامية في حقوق الإنسان ، والتي تظهر تطبيقاتها في المملكة العربية السعودية ، لم تحظ للأسف بالتزام كثير من الدول في العالم الإسلامي.


لقد اعتنقت كثير من دول العالم الإسلامي- نتيجة انبهارها بالفكر الغربي بالذات أو انهيارها أمامه- المبادئ والشعارات التي يطلقها الفكر الغربي ، والتي تمثل تاريخه وتراثه وحياته بعيدا عن الهدي الإلهي.


ولذلك ، تبدو هذه الدول ضعيفة أمام انتقادات الغرب لها في مجال حقوق الإنسان.


لقد بدأت هزيمتها الفكرية باعتناق مفاهيمه ، والجري وراء شعاراته وقوانينه .


فإذا تبين لها- بالنظر إلى ما توجبه عقيدة شعوبها المسلمة ، وشريعتها وتراثها الحضاري وقيمها الاجتماعية- أن تلك المبادئ تضر بمجتمعاتها ، وتحول دون تقدمها ، وحاولت الخروج من تلك التبعية للفكر الغربي في موضوع حقوق الإنسان ، انبرت لها وسائل الإعلام الغربية ، تنكر عليها حقها في الخصوصية الدينية والاجتماعية والثقافية ، وهو ما تشكو منه دول كثيرة ، وتتحمل نتائجه الظالمة.

 

وقد ظهر ذلك واضحا في مؤتمر فينا لحقوق الإنسان ، الذي عقد في الفترة من 24 ذي الحجة 1413 هـ إلى 5 محرم1414 هـ الموافق 14- 25 يونيه 1993م ، إذ حاولت كثير من الدول المشاركة فيه ، أن تتمسك بخصوصيتها الثقافية والاجتماعية ، أمام طغيان الثقافة الغربية ومفاهيمها في قضية حقوق الإنسان.


إن الحل في يد البلاد الإسلامية ، وهو اختيارها للهدي الإلهي ، القرآن الكريم والسنة النبوية ، وأصول الشريعة ومبادئها ، وإظهار الاعتزاز بتلك الخصوصية الدينية والثقافية ، وتطبيقها والالتزام بها.


وهذه الخصوصية ، هي التي تكفل لها موقعا مشرفا في مجال حقوق الإنسان في المجتمع الدولي.
إن المسلمين ، يلتزمون أحكام الشريعة التي تمليها عليهم عقيدة الإسلام ، ومن أصول هذه الشريعة ، تنبع مبادئ حقوق الإنسان ومفاهيمها الصحيحة ، لا سيما فيما يتعلق بحرية الإنسان التي ترفعه ، وتنهض بحياته الإنسانية ، وما يتعلق بحقوق المرأة المسلمة في نطاق كرامتها الإنسانية ، ومصلحة الأسرة والمجتمع.

 

ومن أصول هذه الشريعة ، يستمد المسلمون نظامهم في مواجهة الجريمة وأثرها المدمر للمجتمع ، الذي من حقه الأمن والأمان ، بما توفره الشريعة من وقاية من الجريمة ، وردع لها في أحكام الحدود والقصاص والتعزيزات.


ولدينا في الشريعة الإسلامية ، القيم العالية في حرية التفكير والتعبير بضوابطها الشرعية ، فلا نحتاج إلى التقليد والاستعارة من الغير.


وقد رأينا ما أدت إليه المفاهيم الزائفة لمبادئ حرية الإنسان ، والتسوية الحسابية بين الناس ، دون اعتبار للنظرة الإنسانية ، ولا للعدالة في الحقوق والواجبات داخل المجتمع ، من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع في كثير من مجتمعات العالم.


إن تطبيق الشريعة الإسلامية ، هو العاصم للأمة الإسلامية من التردي فيما وقعت فيه المجتمعات الغربية من تدهور أخلاقي ، وشيوع للظلم والفساد ، وانتشار للجريمة ، وتفكك للأسرة.

 

وهو أيضا سلاحنا وجوهر دفاعنا حين نتصدى لما يوجه إلى البلاد الإسلامية من حملات مشبوهة ومغرضة ، تطلب من المسلمين أن يكونوا تابعين للفكر الغربي ومفاهيمه ، مع أنهم حملة الهدي الإلهي في العقيدة والشريعة في عالمنا المعاصر ، وهو الذي يضمن لهم أن يعودوا كما كانوا : { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } .( سورة آل عمران ، الآية 110( .


وسوف تظهر الأمة الإسلامية في موضوع حقوق الإنسان ، حاملة للهدي الإلهي الذي كرم الإنسان قبل المواثيق الدولية بأكثر من ألف عام : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } .( سورة الإسراء ، الآية 70 .


وحين تجمع الأمة الإسلامية- الدول والشعوب- على اختيار الأقوم والأنفع في حقوق الإنسان في ضوء الهدي الإلهي ، سوف يكون موقعها في العالم المعاصر ، وفي هذا الموضوع بالذات ، هو موقع المعلم ، وليس مقعد الطالب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . ( سورة الأنفال ، الآية 24( .

 

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

المراجع

http://www.islamhouse.com/144878/ar/ar/books/

http://islamport.com/w/fqh/Web/1799/1.htm

http://www.islamicbook.ws/amma/hqwq-alinsan-fi-alislam.html

كتاب : حقوق الإنسان في الإسلام
المؤلف : عبد الله بن عبد المحسن التركي

 

3816 مشاهدات
أصلحنا أو أصلح نفسك
.
تعليقات
الصفحة أعلى