اسباب نزول القرآن الكريم


علم أسباب النزول من علوم القرآن المهمة التي اعتنى بها علماء المسلمين قديماً وحديثاً، وقد دلَّ على مدى اهتمامهم بهذا العلم كثرة الجهود المبذولة في سبيل تدوينه، وإفرادهم له بالعديد من المؤلفات الخاصة.


ويُقصد بعلم أسباب النزول ذِكْرُ كل ما يتصل بنزول الآيات القرآنية من القضايا والحوادث، سواء في ذلك قضايا المكان أو حوادث الزمان، التي صاحبت نزول القرآن الكريم.

وقد تحدث العلماء عن الطرق التي تثبت بها أسباب النزول، وحصروها في أخبار وروايات الصحابة، الذين شاهدوا الوحي وعاصروا نزوله، وعاشوا الوقائع والحوادث وظروفها. وأيضاً فإن الأخبار التي نقلها التابعون، الذين تلقوا العلم عن الصحابة، تعتبر مرجعاً مهماً في معرفة أسباب النزول

وكان من هدي السلف الصالح رضي الله عنهم التحرز عن القول في أسباب النزول من غير خبر صريح أو علم صحيح.

 

المحتويات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فوائد هذا العلم

أما عن فوائد هذا العلم – كما ذكرها العلماء – فهي كثيرة، منها أن معرفة أسباب النزول تُعين القارئ لكتاب الله على فهمه فهماً صحيحاً سلمياً، وذلك أن العلم بالسبب يُورث العلم بالمسبَّب. ومنها أنها تُيسِّرُ حفظ كتاب الله وتُثَبِّتُ معناه، لأن ربط الأحكام بالحوادث والأشخاص والأزمنة والأمكنة يساعد على استقرار المعلومة وتركيزها. وقالوا أيضا في فوائد هذا العلم إنه يمكِّن من معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ومن المعلوم أن هناك من الآيات ما يصعب فهم المراد منها، ويقع الخطأ في تفسيرها في حال الجهل بأسباب نزولها.

من هنا كان من الأهمية بمكان – لقارئ كتاب الله عامة وللمفسر خاصة – أن يكون على علم ودراية بأسباب النزول؛ ليكون على بصيرة من كتاب ربه، فيفهمه فهماً صحيحاً سليماً، أما إذا لم يكن على معرفة وبينة من تلك الأسباب فربما فهمه على غير ما قُصِد منه، فيكون قد أخطأ من حيث أراد الصواب.

ولنمثل لذلك بمثال، وهو قوله تعالى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها (البقرة:189) فهذه الآية لا يستقيم فهمها فهماً صحيحاً إلا في ضوء معرفة سبب نزولها، وقد جاء في سبب نزولها، ما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث البراء رضي الله عنه أنه قال: (كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها فالمراد من الآية على ضوء سبب نزولها ليس مجرد الأمر بالدخول من الأبواب على حقيقته، بل المراد منها الأمر بالتزام أوامر الله ونواهيه، وطاعته على وفق ما أمر وشرع. وأمثلة هذا كثير في القرآن.

وكما ذكرنا بداية، فإن أسباب النزول قد أفرد لها أهل العلم مؤلفات خاصة، لعل من أهمها كتاب "أسباب النزول" للواحدي ، وكتاب "أسباب النزول" للسيوطي ، وللحافظ ابن حجر تأليف فيها أيضاً، إضافة إلى أن كل من كتب في علوم القرآن أفرد بحثاً خاصاً بأسباب النزول.

ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن العلماء قرروا قاعدة متعلقة بأسباب النزول، مفادها أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وتعني هذه القاعدة باختصار، أن النص الشرعي إذا ورد بسبب واقعة معينة حصلت في عصر التنزيل، فإن الحكم لا يكون مقتصراً على تلك الواقعة فحسب، وإنما يكون حكماً عاماً في كل ما شابهها من وقائع ونوازل، وذلك أن أحكام القرآن – من حيث الأصل – هي أحكام عامة لكل زمان ومكان، وليست أحكاماً خاصة بأفراد معينين.

ولتوضيح هذه المسألة نذكر مثالاً يكشف المقصود منها. فقد أخرج البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنه، أن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌّ في ظهرك) فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً، ينطلق يلتمس البينة، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (النور:6) فهذه الآية سبب نزولها خاص، وهو هذه الحادثة، إلا أن حكم اللعان الذي جاءت به حكم عام، خُوطب به جميع المسلمين، ومن هنا قال أهل العلم العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقد توسع العلماء في بحث هذه المسألة، وفيما ذكرنا غُنية، ونحيل من أحب التوسع في هذه المسألة إلى مظانها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.

 

أقسام نزول القرآن

والذي ينقسم نزول القرآن إلى قسمين:

 

القسم الأول: ابتدائي

وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه وهو غالب آيات القرآن، وهو ما نزل ابتداءً بعقائد الإيمان وواجبات الإسلام وما نزل ليهدي الإنسانية إلى المحجة الواضحة، ويرشدها إلى الطريق المستقيم ويقيم لها أسس الحياة الفاضلة التي تقوم دعامتها على الإيمان بالله ورسالاته ويقرر أحوال الماضي، ووقائع الحاضر وأخبار المستقبل وأكثر القرآن نزل ابتداءً لهذه الأهداف العامة.

 

القسم الثاني: سببي

وهو ما نزل مرتبطًا بسبب من الأسباب الخاصة وهو موضوع البحث الآن:

 

والسبب:

أ- إما سؤال يجيب الله عنه، مثل: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج البقرة: 189، وسواء أكان ذلك السؤال المرفوع إلى النبي – صلى الله عليه و سلم – يتصل بأمر مضى نحو قوله – سبحانه – في سورة الكهف: ويسألونك عن ذي القرنين آية: 83 أم يتصل بحاضر أو مستقبل إلى غير ذلك.

 

ب- أو حادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل: قوله – تعالى -: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب التوبة: 65 الآيتان نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول اللَّه – صلى الله عليه و سلم – وأصحابه، فبلغ ذلك رسول اللَّه – صلى الله عليه و سلم -، ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر إلى النبي – صلى الله عليه و سلم – فيجيبه بقوله – تعالى -: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون التوبة: 65.

 

ج- أو فعل واقع يحتاج إلى معرفة حكمه، مثل قوله – تعالى -: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير المجادلة: 1.

 

د- أو تمنيًا من التمنيات، كموافقات عمر – رضي الله عنه -، ومن أمثلتها ما أخرجه البخاري وغيره عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال عمر – رضي الله عنه -: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى البقرة: 125، وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البرُّ والفاجرُ، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن"، فنزلت كذلك، وهذه في سورة التحريم الآية: 5.

 

طريق معرفة سبب النزول:

لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح، والعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول على صحة الرواية عن رسول اللَّه – صلى الله عليه و سلم -، أو عن الصحابة فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا إذا كان صريحًا لا يكون بالرأي، بل يكون له حكم المرفوع، قال الواحدي: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا في علمها وجدّوا في الطلب" وهذا هو نهج علماء السلف، فقد كانوا يتورعون عن أن يقولوا شيئًا في ذلك دون تثبت، قال محمد بن سيرين: سألت عبيدة عن آية من القرآن، فقال: اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن. وهو يعني الصحابة، وإذا كان هذا هو قول "ابن سيرين" وهو من أعلام علماء التابعين تحريًا للرواية، ودقة في الفصل، فإنه يدل على وجوب الوقوف عند أسباب النزول الصحيحة، ولذا فإن المعتمد من ذلك فيما روى من أقوال الصحابة ما كانت صيغته جارية مجرى المسند بحيث تكون هذه الصيغة جازمة بأنها سبب النزول.

 

التعبير عن سبب النزول:

تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النزول، فتارة يُصرَّح فيها بلفظ السبب فيقال: "سبب نزول الآية كذا"، وهذه العبارة نَصٌّ في السببية لا تحتمل غيرها، وتارة لا يُصرَّحُ بلفظ السبب ولكن يُؤتي بفاء داخلةٍ على مادة نزول الآية عقب سَرْد حادثة، وهذه العبارة مثل تلك في الدلالة على السببية أيضًا.

 

ومثاله ما أخرجه مسلم عن جابر قال: كانت اليهود تقول: "من أتى امرأته من دُبرها في قُبلها جاء الولد أحول"، فأنزل الله: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين البقرة: 223.

 

وما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: "أنزلت: نساؤكم حرث لكم في إتيان النساء في أدبارهن، فالمعول عليه في بيان السبب هو رواية جابر الأولى، لأنها صريحة في الدلالة على السبب، ومرةً يُسأل الرسول، فيوحَى إليه ويُجيب بما نزل عليه ولا يكون تعبيرٌ بلفظ سبب النزول، ولا تعبيرٌ بتلك الفاء، ولكن السببية تُفهم قطعًا من المقام، مثاله ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: "كنتُ أمشي مع النبي – صلى الله عليه و سلم – بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب فمرَّ بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه فقالوا: حدِّثنا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي، ثم قال: قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: "قالت قريش لليهود أعطونا شيئًا نسأل هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الرُّوح، فسألوه، فأنزل الله: ويسألونك عن الروح، فهذا الخبر الثاني يدلُ على أنها نزلت بمكة، وأن سبب نزولها سؤال قريش إياه، أما الأول فصريح في أنها نزلت بالمدينة بسبب سؤال اليهود إياه، وحكم هذا أيضًا حكم ما هو نصٌّ في السببية.

 

ومرة أخرى لا يُصرح بلفظ السبب ولا يؤتى بتلك الفاء، ولا بذلك الجواب المبني على سؤال، بل يقال: نزلت هذه الآية في كذا (مثلاً)، وهذه العبارة ليست نصًا في السببية، بل تحتملها وتحتمل أمرًا آخر، هو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام. والقرائن وحدها هي التي تعيِّن أحد هذين الاحتمالين أو تُرجِّحه.

 

ومن هنا نعلم أنه إذا وردت عبارتان في موضوع واحد: إحداهما نص في السببية لنزول آية أو آيات، والثانية ليست نصًا في السببية لنزول تلك الآية أو الآيات هنالك نأخذ في السببية بما هو نصٌ، ونحمل الأخرى على أنها بيان لمدلول الآية لأن النصَّ أقوى في الدلالة من المحتمل.

 

المصادر

www.islamselect.com

  • مباحث في علوم القرآن الكريم لصالح الصبحي

 

4169 مشاهدات
أصلحنا أو أصلح نفسك
.
تعليقات
الصفحة أعلى