مسؤولية الدول الإسلامية عن الدعوة ونموذج المملكة العربية السعودية


أما موضوع الكتاب فيتعلق بأمر مهم جدًّا وهو مسؤولية الدول الإسلامية عن الدعوة وتطبيقات ذلك في الواقع المعاصر مع التركيز على نموذج المملكة العربية السعودية وما تقوم به من جهود عظيمة معروفة في هذا المجال. وقد انبثقت فكرة هذا الكتاب من المحاضرة التي ألقاها معالي الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في "مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية" بالرياض في الرابع عشر من جمادى الآخرة عام 1416 هـ، وذلك إيمانًا بأهمية الموضوع، ورغبةً في تعميم الفائدة.

 

ونرجو أن يجد القارئ الكريم في هذا العمل العلمي ما يفيد، وأن يجد القائمون على العمل الإسلامي فيه ما يحفزهم على المزيد من البذل والعطاء في سبيل هذا الدين العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين....

 

المحتويات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تقديم

الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، أحمده سبحانه، وأصلي وأسلم. على خير خلقه وأفضل رسله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

فيطيب لي أن أقدم بين يدي القارئ الكريم الإصدار الأول من سلسلة "الكتاب الإسلامي" التي يصدرها "مركز البحوث والدراسات الإسلامية" في المملكة العربية السعودية. وتعد هذه السلسلة قناة علمية لنشر البحوث والدراسات الفكرية الجادة التي تتفق مع أهداف المركز في خدمة الإسلام والمسلمين ودراسة أحوالهم ونشر كل ما يسهم في إصلاح أمورهم في كل مكان، والتعريف بأوضاعهم، والدفاع عن قضاياهم، وتحسين صورة الإسلام التي تعرضت للتشويه زورًا وبهتانًا.

 

وإنني لسعيد حقًّا أن يتصدر هذه السلسلة هذا الكتاب الذي بين أيديكم، وهو لرجل نذر نفسه ووقته وصحته لخدمة هذا الدين العظيم، وتوج ذلك كله بتحمل المسؤولية العظيمة في تبليغ رسالة الإسلام وخدمة المساجد والأوقاف من خلال عمله وزيرًا للشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية.

 

أما موضوع الكتاب فيتعلق بأمر مهم جدًّا وهو مسؤولية الدول الإسلامية عن الدعوة وتطبيقات ذلك في الواقع المعاصر مع التركيز على نموذج المملكة العربية السعودية وما تقوم به من جهود عظيمة معروفة في هذا المجال. وقد انبثقت فكرة هذا الكتاب من المحاضرة التي ألقاها معالي الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في "مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية" بالرياض في الرابع عشر من جمادى الآخرة عام 1416 هـ، وذلك إيمانًا بأهمية الموضوع، ورغبةً في تعميم الفائدة.

 

ونرجو أن يجد القارئ الكريم في هذا العمل العلمي ما يفيد، وأن يجد القائمون على العمل الإسلامي فيه ما يحفزهم على المزيد من البذل والعطاء في سبيل هذا الدين العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين....

الرياض1/ 8/ 1416 هـ

المدير العام

لمركز البحوث والدراسات الإسلامية

د. مساعد بن إبراهيم الحديثي

 

 

مقدمة

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام الدعاة، إلى يوم الدين، أما بعد:

فإني أتوجه بخالص الشكر إلى "مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية"، والقائمين عليه، وفي مقدمتهم صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة المركز، وسعادة الأخ الدكتور زيد الحسين الأمين العام للمركز.

 

هذا المركز الذي لبى حاجةً قائمة في مجال البحوث والدراسات الإسلامية، وتوفير المخطوطات، وعون الباحثين والدارسين، ونشر الوعي والمعرفة، والإسهام الثقافي النافع.

ولا غرو؛ فهو جزء من مؤسسة تحمل اسم الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، صاحب الجهود العظيمة في خدمة الإسلام والمسلمين، في المملكة العربية السعودية وفي خارجها. وإن ما تلقاه مؤسسة الملك فيصل الخيرية، من دعم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله، وسمو ولي عهده، وسمو النائب الثاني، مكَّنها من تحقيق أهداف سامية في مجالات عدة.

 

لقد رغب إليَّ المركز أن أحاضر في موضوع ذي أهمية بالغة في حياة المسلمين بعامة، وفي عصرنا الحاضر بخاصة: "مسؤولية الدول الإسلامية عن الدعوة ونموذج المملكة العربية السعودية".

 

وهو موضوع متشعب وواسع، لا يكفي للوفاء به الوقت المخصص للمحاضرة. ومن هنا، فإن تناول موضوعاته سيكون موجزًا، أقدم فيه ما أراه أهم من غيره. وذلك من خلال محاور خمسة:

الأول: الدعوة إلى الله، وأمانة تبليغها، والحاجة الماسة إليها في هذا العصر.

 

الثاني: الدين والأمة والدولة في التصور الإسلامي.

 

الثالث: الدولة والدعوة في التاريخ الإسلامي:

أ‌- قيام الدولة في عهده rوخلفائه بواجب الدعوة.

ب‌- التزام الدول الإسلامية في التاريخ الإسلامي بالإسلام ودعوته.

 

الرابع: الدولة والدعوة في البلاد الإسلامية في العصر الحديث:

أ- تأثير الفكر الغربي في كثير من المجتمعات الإسلامية.

ب- ارتباط موقف الدول الإسلامية من الدعوة بموقفها من الدين.

ج- العقبات التي واجهت الدعوة في كثير من البلاد الإسلامية:

- ضعف الإمكانات المادية والعلمية.

- وجود نظام تعليمي لا يهتم بالتربية الإسلامية وبالعلوم الشرعية.

- تعارض النظام الإعلامي فيما يبثه ويقدّمه مع قيم الإسلام ومبادئه.

 

الخامس: الدولة والدعوة في المملكة العربية السعودية:

أ- خصوصية النشأة والارتباط بالدين.

ب- وضوح نظام الحكم في المملكة والأنظمة الأخرى، وصراحتها في الارتباط بالإسلام عقيدة وشريعة.

ج- اتساع مفهوم الدعوة في هذا العصر، وتعدد صوره:

- الغوث عند المحن.

- توجيه المسلمين والحفاظ على هويتهم.

- التضامن الإسلامي ورعاية مؤسساته.

 

راجيًا أن أوفق في تحقيق ما سعى إليه هذا المركز المبارك من هذه المحاضرة، وسائلا الله لي وللجميع العون والتوفيق، والإخلاص في القول والعمل.

" وصلى الله وسلّم على نبينا محمد "

عبد الله بن عبد المحسن التركي

وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد

 

 

الدعوة إلى الله وأمانة تبليغها والحاجة الماسة إليها في هذا العصر

الدعوة إلى الله تبليغ عن الله Uلإقامة الحجة على الناس، وهي في الأصل عمل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. فكل نبي كانت مهمته الأولى إبلاغ رسالة الله إلى من أرسل إليهم.

قال الله تعالى حكايةً عن نوح عليه السلام: وَلَـٰكِنِّي رَ‌سُولٌ مِّن رَّ‌بِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦١﴾أُبَلِّغُكُمْ رِ‌سَالَاتِ رَ‌بِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ  [الأعراف: 61- 62..]

 وقال عن هود عليه السلام: وَلَـٰكِنِّي رَ‌سُولٌ مِّن رَّ‌بِّ الْعَالَمِينَأُبَلِّغُكُمْ رِ‌سَالَاتِ رَ‌بِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ[الأعراف: 67-68.]

 

وقال عن محمد rيَا أَيُّهَا الرَّ‌سُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّ‌بِّكَ ۖوَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِ‌سَالَتَهُ ۚوَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ  [سورةالمائدة آية: 67.]

وقال: مَّا عَلَى الرَّ‌سُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ[سورة المائدة آية: 99.]

 وقال: فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَ‌سُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ[سورة المائدة آية: 92.]

وغير ذلك من الآيات التي تنص على أن مهمة الأنبياء والرسل البلاغ عن الله سبحانه وتعالى.

وبعد أن ختم الله النبوات بمحمد وانتقل rإلى الرفيق الأعلى، وانقطع الوحي بوفاته، فإن الذين يحملون أمانة البلاغ والدعوة إلى الله، هم العلماء من بعده، امتثالا لقول الله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ‌ وَيَأْمُرُ‌ونَ بِالْمَعْرُ‌وفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ‌ ۚوَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ آل عمران: 104. ]

وامتثالا لما ورد عن رسول الله rفي هذا المعنى: ففي حديث زيد بن ثابت عند أبي داود قوله r{ "نضَّر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلّغه }

 الترمذي العلم (2656) ، أبو داود العلم (3660) ، ابن ماجه المقدمة (230) ، أحمد (5/183) ، الدارمي المقدمة (229).

 

 وفي حديث أبي هريرة tعند مسلم: { "من دعا إلى هُدىً كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئًا }مسلم العلم (2674) ، الترمذي العلم (2674) ، أبو داود السنة (4609) ، أحمد (2/397) ، الدارمي المقدمة (513).

 

وفي حديث أبي مسعود tعند مسلم أيضًا: { "من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله } مسلم الإمارة (1893) ، الترمذي العلم (2671) ، أبو داود الأدب (5129) ، أحمد (4/120).

 وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله tقوله: { بايعتُ رسولَ الله rعلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم } رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب قول النبي "الدين النصيحة للّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم... "، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن لا يدخل الجنة إلا المؤمنون... "، فتح الباري، السلفية، 1: 137 النووي 1: 54.

 

 

فالنصح مقتضاه أن يقوم الإنسان بواجبه في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وبيان الحق الذي ينبغي أن يسلكه ويسير عليه الفرد والمجتمع. وقصة أبي هريرة tالمشهورة حينما نادى في سوق المدينة بأن ميراث رسول الله rيقسم في المسجد وأنتم هاهنا. فلما ذهبوا ولم يجدوا شيئًا رجعوا وأخبروه فقال لهم: وما رأيتم في المسجد؟ قالوا: رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرأون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام.

 

 

فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمد rقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن، انظر: مجمع الزوائد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1402 هـ، 1: 121.  تبين أن ميراث النبوة يحمله قادة الأمة وعلماؤها خلفًا عن سلف. إن العلماء في كل عصر يحملون أمانة الدعوة، اتباعًا للرسول rيدعون إلى الله على بصيرة:قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚعَلَىٰ بَصِيرَ‌ةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف: 108.]

 

ولا يكتمل منهج الدعوة إلى الله - كما أخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم- حتى يقترن كمال الإِيمان والتوحيد بالعمل الصالح من الداعي. يقول تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت: 33.]

 

 

 فالدعوة إلى الله هي من أحسن القول، والعمل الصالح من أحسن العمل، واجتماعهما في منهج الداعي يصدِّق قول الله تعالى فيه أنه من المسلمين.

 

والدعوة إلى الله بابها واسع، تشمل دعوة المسلمين وغير المسلمين: فبالنسبة للمسلمين تنتظم تعليمهم ما لا يسعهم جهله من أحكام دينهم، وتبصيرهم بما ينبغي أن يكونوا عليه في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وتُبين لهم وجه الحق فيما يلتبس عليهم، تصحح المعتقد، وترد على المعاند والمكابر.

 

وتنتظم وعظ عامة المسلمين وخاصتهم، وإرشادهم ومناصحتهم وموالاتهم، ودعوتهم إلى الإسهام في الخير والتعاون عليه.

 

وتنتظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل الناس على الالتزام بشرع الله.

وغير ذلك من مجالات الخير والإحسان والبر والتقوى.

 

وبالنسبة لغير المسلمين، تبين لهم أن دين الإسلام هو الدين الخاتم، وأن محمدًا rخاتم المرسلين، وأن شريعته ودينه ناسخ لما سبقه من الأديان، وأن الإسلام عام للثقلين، الجن والإنس إلى قيام الساعة، وأن فيه الخير والصلاح للإنسانية أجمع.

 

وتعرض عليهم محاسن الإسلام، وأنه المنقذ للبشرية من ويلاتها، وما هي فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية. وتطلب منهم الدخول فيه، وترك ما سواه من الملل والنحل، وترد على خصوم الإسلام وأعدائه.

 

وقد شرع الله للمؤمنين مجاهدة من عاند بعد إقامة الحجة عليه، وتبليغه بالإسلام دين الله الحق، الذي بعث الله به رسوله محمدًا rومعارضته له وصده عن سبيله، ولم يستسلم للّه بتوحيده، ولم ينقد له بطاعته، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، ولم يتخلص من الشرك والكفر والضلال.

إلى غير ذلك من المجالات التي تنتظمها الدعوة، وتتوجه إليها، كل حسب حاجته ومستواه.

وهي فريضة من فرائض الله المحكمة، لأن بها يستمر الدين الإسلامي، ويعبد الله في الأرض على الوجه الذي شرع.

فعبادته هي الغاية من خلقه الجن والإِنس: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[سورة الذاريات آية: 56.]

 

ويقتدى برسول الله rفي كل شأن: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَ‌سُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْ‌جُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ‌ وَذَكَرَ‌ اللَّـهَ كَثِيرً‌ا[سورة الأحزاب آية: 21.]

 

ووسائلها عديدة، تتم عن طريق الفرد، والجماعة، والمؤسسة، والمسجد، والمحاضرة، والكتاب والشريط، والمدرسة، والجامعة. وتستفيد من مختلف وسائل الإعلام والاتصال، التي تنقل الدعوة أهدافًا وبرامج إلى المستفيدين منها، والمحتاجين إليها، بدءًا من دعوة الأقربين، والمحيط الذي يعيش فيه الداعية، وانتهاءً بما تصل إليه عبر القارات والمحيطات.

 

لقد بلَّغ رسولنا محمد rما أنزل إليه من ربه سبحانه وتعالى، استجابة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّ‌سُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّ‌بِّكَ ۖوَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِ‌سَالَتَهُ ۚوَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[سورة المائدة آية: 67.]

 

وبدأ الرسول rالدعوة إلى الله، فدعا أقرب الناس إليه، تنفيذًا للأمر الإِلهي: وَأَنذِرْ‌ عَشِيرَ‌تَكَ الْأَقْرَ‌بِينَ [سورة الشعراء آية: 214.]

ثم دعا الناس كافة، فأرسل إلى ملوك الأرض في عصر النبوة يدعوهم إلى الله.

إن أجر الداعي من الرسل والأنبياء على الله Uكَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْ‌سَلِينَ ﴿١٠٥﴾إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٠٦﴾إِنِّي لَكُمْ رَ‌سُولٌ أَمِينٌ ﴿١٠٧﴾فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٠٨﴾وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‌ ۖإِنْ أَجْرِ‌يَ إِلَّا عَلَىٰ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ[الشعراء: 105 - 109.]

وأمر الله رسوله rأن يقول لمن يدعوهم: ﴾قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ‌ فَهُوَ لَكُمْ ۖإِنْ أَجْرِ‌يَ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ ۖوَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[سورة سبأ آية: 47.]

هكذا جرت سنة الله في بعث الرسل والأنبياء، أجرهم على الله.

 

 

أما المؤمنون بالدعوة فالأجر والنفع لهم في دنياهم وآخرتهم.

وسنة الله مع أنبيائه ورسله إلى الخلق، هي أصدق العلامات على صدق الداعي وتجرده وإخلاصه للّه عز وجل. فمازال الناس يَتْبَعون من يدعوهم إلى خير ولا يأخذ منهم مقابل ذلك أجرًا، ويعرضون عن دعوة من يحصل لنفسه على الأجر، ويطلب عاجل النفع.

وبهذه السنة الإلهية في منهاج الدعوة، يظهر لنا سبب اختفاء كثير من الدعوات التي يحرص دعاتها على النفع العاجل، ويظهر لنا كذلك سبب نجاح كثير من الداعين إلى الهدى ودين الحق، حين يرتفع الدعاة عن طلب الأجر إلا من الله عز وجل.

 

 

لم تكن دعوة النبي rفي يوم من الأيام وسيلة إلى قهر الناس وإذلالهم ولا العدوان عليهم، طلبًا لمغنم، أو تمكينًا لأتباعه على من خالف الدعوة، وإظهارًا لنصرتهم على أعدائهم فقط. لم تكن الدعوة كذلك حين بلّغها النبي rفمن آمن به وتبعه لم يزدد إلا عزًّا وقربًا من الله ورسوله، وقد أمر الله رسوله rأن يأخذ هؤلاء باللين والرحمة: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[سورة الشعراء آية: 215.]

 

ومنهج الدعوة هذا هو منهج الدعاة إلى الحق في كل زمان ومكان، وصولة الحق ليست في كثرة العدد والعدة، وإنما هي في دخوله إلى القلب والعقل، فالدعوة إلى الله هي دعوة الحق، والرسل مبشرون ومنذرون، وليسوا طغاة أو جبارين، يقول تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗوَمَا أَرْ‌سَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرً‌ا وَنَذِيرً‌ا [سورة الإسراء آية: 105.]

 

وإذا كانت الدعوة هي التبليغ عن الله Uلإقامة الحجة فإن من أول لوازمها الأمانة في التبليغ. وقد تعرض الأنبياء والمرسلون إلى مجادلة المعارضين وحِجاج الكافرين، بغية حملهم على تغيير جانب مما أرسل به رسل الله، أو الإغضاء عن اتباع جانب من الأحكام التي أنزلها الله وبلغها رسله، وامتحن أنبياء الله ورسله في ذلك، وقد قص الله علينا في القرآن الكريم أنباء الأمم السابقة ولجاجها وحجاجها بالباطل، كما قص علينا ما أراده الكفار من النبي rوأمر الله Uلرسوله الأمين بالرد عليهم: وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْ‌جُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْ‌آنٍ غَيْرِ‌ هَـٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚقُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖإِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖإِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَ‌بِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ  [سورة يونس آية: 15.]

 

 

ولقد أراد بعض الجبارين من كفار مكة أن يصرفوا عطف النبي rورحمته بأصحابه من الفقراء والمساكين، حتى يخلص لهم وجهه الكريم وحديثه الشريف، وطلبوا منه أن يطرد هؤلاء، وكانوا يظنون أن حرص الرسول rعلى هداية الخلق ربما تدفعه لإِجابة طلبهم، ولكن الله سبحانه ينزل على رسوله قوله: وَلَا تَطْرُ‌دِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَ‌بَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِ‌يدُونَ وَجْهَهُ ۖمَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُ‌دَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام آية: 52.]

 

 

فالأمانة من لوازم التبليغ، وكمال الأمانة في الأنبياء والمرسلين، وهي توجيه الله للدعاة إليه إلى يوم الدين.

وقد واجهت رسالات الأنبياء التكذيب من عامة الكفار بها والمعرضين عنها، ولكنها تعرضت أيضًا للغلو والتحريف ومحاولة التغيير من الغالين والمبطلين، ممن ينتسبون إلى العلم أو العقل، ونالت الكتبَ المنزلة يد التحريف بالتغيير والتبديل في بعض ما أنزل الله على رسله، ولكن الله تعالى حفظ كتابه المنزل على رسوله محمد rإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ‌ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[سورة الحجر آية: 9. ]

 

لم يترك حفظ كتابه لأحد من الخلق، فظل يُقرأ ويتلى منذ عصر النبوة وحتى اليوم كما أنزله الله على رسوله.

فالدعاة إلى الإسلام في يدهم كتاب واحد بلفظه وحرفه ورسمه، وليس عليهم سوى الأمانة في البلاغ عن الله Uمما في القرآن الكريم من الآيات والذكر الحكيم. ومما في السنة النبوية المطهرة التي تعتبر بيانًا لكتاب الله الكريم: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ‌ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُ‌ونَ[سورة النحل آية: 44.]

كما تعتبر المصدر الثاني للتشريع، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّ‌سُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [سورة الحشر آية: 7.]

وقد حفظها الله برجال انقطعوا لحفظها، ووضعوا منهجًا علميًّا موضوعيًّا، لذلك اعتَرف بصدقه وأنه من خصائص الأمة المحمدية المنصفون من جميع الملل والمذاهب، فكانت السنة محفوظة بتوفيق الله وعونه لرجالها، وهي وحي من الله إلى رسوله: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣﴾إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ[سورة النجم آية:3 - 4.]

 

وليس سوى الأمانة في التبليغ من سلاح في يد الدعاة إلى الله في مواجهة ما يموج به العصر من نحل ومذاهب وتيارات فكرية، والكثير منها نشأ مضارة للإسلام عن طريق التحريف والتشكيك والغلو وسوء التأويل، وأصحاب هذه النحل والمذاهب والتيارات يعرضونها على الناس باسم الإسلام عن طريق التأويل الباطل، أو الانتحال الكاذب، وكثيرًا ما يكون الهدف هو استخدام الإسلام وليس خدمته، مع أن هدف الدعوة والبلاغ هو هداية الخلق إلى الحق، مع التجرد الكامل من الهوى، فلا يكون هدف الداعي نصرة قومه أو جنسه، مما نراه الآن واقعًا لدى البعض في ساحة الدعوة.

 

ودعاة الحق من العلماء أولى الناس بالتمسك بالأمانة في التبليغ، اتباعًا لسنة الأنبياء جميعًا، واقتداء بالنبي rولا يضرهم بعد ذلك تحريف الغالين، أو تأويل الجاهلين، أو انتحال المبطلين، فالعلماء هم العدول في قول النبي r{ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين }

 رواه الخطيب من حديث معاذ بن جبل وغيره، انظر: شرف أصحاب الحديث، تحقيق محمد سعيد خطيب أوغلي، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ص 11، 28-29.

 

ومنذ قامت دولة الإسلام في المدينة المنورة، والدعوة إلى الله أول واجباتها وأهم أعمالها، ولقد سالمت وحاربت في سبيل الدعوة إلى دين الله الحق، وإزالة الشرك والكفر، وقامت بحماية الأمة الإسلامية، دفاعًا عن الدعوة، وتأمينًا لبقائها واستمرارها، حتى لا تهلك عصبة المؤمنين في الأرض، ثم حملها الصحابة والتابعون بعد عصر النبوة، وحملها من بعدهم علماء الأمة ودعاتها حتى يومنا هذا، ولم ينقطع حبل الدعوة المتين في عصر من العصور، حتى ما كان في بعض العصور من ضعف المسلمين وتفككهم، واستيلاء غير المسلمين على كثير من بلادهم، سواء في المشرق العربي، أم المغرب العربي، أم في بلاد آسيا وأفريقيا.

 

فقد حمل الإسلام ودعوته من كل خلف عدوله، كما قال رسول الله rولم يختفِ صوت الدعوة إلى الله من الأرض، حتى ولو سيطر على بعض أطرافها غير المسلمين، كما حدث في بلاد المشرق أو المغرب العربي في العصر الحديث.

 

لم يخل عصر من قائم للّه بالحجة، ولا تزال الطائفة المنصورة ظاهرة، كما قال رسول الله r{ لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة } مسلم الإمارة (1920) ، الترمذي الفتن (2229) ، أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، ابن ماجه الفتن (3952) ، أحمد (5/279).  متفق عليه، وقد ذكره السيوطي في الأحاديث المتواترة، انظر: قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة، المكتب الإسلامي، دمشق، 1405 هـ، ص 216.

 

لقد حفظ الإسلام لبلاد المسلمين التي سيطر عليها غيرهم هويتها القومية، ولسانها العربي المبين.

 

وعلى الرغم من زوال الدولة الإسلامية بالسيطرة والاحتلال في غالب بلاد المسلمين فإن المجتمع الإسلامي ظل في مجموع معاملاته وأعرافه وتقاليده تحت ظل الإسلام، وفي سعة أحكامه، حتى زالت سطوة الاحتلال، فعاد وجه الإسلام مشرقًا في هذه البلاد. وهي حقيقة لم تفت أحد الكتاب غير المسلمين، وهو " برنارد لويس " الذي ذكر أن الإسلام ظل يحكم مجتمعات إسلامية عديدة بعد أن زالت الدولة في هذه المجتمعات، حتى عادت الدولة من جديد، وبلاد المغرب العربي بالذات خير شاهد على ما نقول.

والإسلام يُثبت بذلك أنه أقوى من الدول، ومن الأنظمة السياسية.

 

وفي هذا العصر تبدو الحاجة إلى الدعوة أكثر من أي وقت مضى منذ قرون عديدة.

لقد أزال الإسلام بأصوله وقواعده وقيمه الإنسانية الرفيعة، النظام الروماني الذي كان سائدًا عند بزوغ فجره، وأشرق على العالم النظام الإسلامي الذي ظل سائدًا لقرون طويلة يمد العالم بحضارة مادية وروحية لم يشهد لها العالم القديم مثيلًا، وهو ما يذكره بصدق كثير من الباحثين من غير المسلمين.

 

ولكن إرادة الله قضت بأن تتغلب الحضارة الأوروبية أو الغربية على الحضارة الإسلامية في كثير من المجتمعات.

 

ففي العصر الحديث، وطبقًا لمفاهيم الحضارة الغربية، جرى في أوروبا فصل الدين عن الدولة منذ الثورة الفرنسية سنة 1789م، ثم جرت المحاولة الكبرى لعزل الدين عن المجتمع - وليس عن الدولة فحسب - في الثورة الماركسية سنة 1917م، ونال العالم الإسلامي جانب من هذا الشر، حتى إن بعض الدول التي تنتسب إلى الدول الإسلامية كانت تتولى كِبر محادة الله ورسوله، وبعضها كان يتنكر للدين الذي يؤمن به شعبها في شرعه وأعرافه وتقاليده، ولكن الله غالب على أمره، فلم تمضِ عشرات السنين - وهي فترات لا تحسب في تاريخ الأمم والشعوب - حتى تحقق قول الله تعالى:وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِ‌هِ[سورة يوسف آية: 21.]

 

 فبطل ما دعا إليه من كرسوا فصل الدين عن الدولة، وانهار تدبير من حاولوا عزل الدين عن الناس في حياتهم، وبدا تهافت المذاهب والملل والنحل الإنسانية الباطلة.

إن الدعوة إلى الله في القرن الخامس عشر الهجري، سوف تُعبر عن الاتساق مع حركة التاريخ التي ظهرت وجهتها في العصر الذي نعيش فيه.

 

لقد فشلت كل المذاهب والنظريات التي حاولت منع الإسلام من العودة إلى قيادة المجتمع، بعد أن استخدمت كل الوسائل للتنفير من ظهور الإسلام، نظامًا يحكم الحياة الإنسانية.

 

ولكن الدعوة إلى الله تواجه في كثير من البلاد الإسلامية عقبات عديدة.

ولم يصبح الاهتمام بأمر الإسلام ودعوته ونظامه، قاصرًا على الدعاة، أو حتى على الدول الإسلامية، لقد أصبح الاهتمام بذلك الأمر عالميًّا، ولأسباب عديدة.

لقد أصبح النظر موجهًا إلى الإسلام باعتباره قوة صاعدة، لا يُعرف مدى تأثيرها العملي في المستقبل، وبدا أن بعض البلاد غير الإسلامية تتخوف من الإسلام، ليس في حاضره، لأن المسلمين الآن في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها، من المستضعفين في الأرض، ولكن الخوف لدى هؤلاء من مستقبل الإسلام ذاته، لأنهم يعرفون حق المعرفة أنه لا مستقبل للمسلمين بغير الإسلام، وهي حقيقة أدركها أعداء الإسلام، ولكنها تخفى، أو يراد إخفاؤها عن جمهور المسلمين.

 

إن الدعوة إلى الله في الحاضر والمستقبل ليست مسؤولية فرد أو جماعة فقط، مهما كانت القدرات والمواهب، إن الدعوة إلى الإسلام وإلى سبيل الله هي في حقيقتها رسالة أمة، ودعوة دولة، وواجب مجتمع.

لقد مارست دول عديدة - ومن بينها دول تنتسب إلى الإسلام- الدعوة إلى مبادئ ونظريات مختلفة ومتنافرة أحيانًا، وحاولت أن تختار لها طريقًا واضحًا للتقدم الإنساني، لكنها منيت جميعًا بخيبة الأمل، وبعضها بدأ يعيد الكرة من جديد في الاختيار.

 

هناك اختيار واحد للتقدم الإنساني بكل نواحيه أمام البلاد الإسلامية خاصة، وهو الاختيار الوحيد الذي يحقق لها النجاح، إنه الإسلام، ولكنه في نظر البعض مبعث خوف وقلق وشك، ولذلك أسبابه التي تراكمت في البلاد الإسلامية منذ عشرات السنين، والتي جعلت المجتمع الإسلامي في العديد من البلاد يفقد جانبًا كبيرًا من هويته، ويبحث عنها خارج تكوينه العقلي والنفسي، المستمد أساسًا من الإسلام.

 

إن الدعوة إلى الله داخل العالم الإسلامي وخارجه أيضًا لن يقدر على الوفاء بحقها أفراد أو جماعات، بعيدًا عن إمكانيات الدول وقدراتها ووسائلها وإشرافها، فالدولة في كل مجتمع هي التي تستطيع أن تجمع قدرات الأفراد والجماعات، وتستطيع إذا أحسنت المقاصد والنوايا أن تقود الدعوة إلى الله.

 

 

الدين والأمة والدولة في التصور الإسلامي

الدولة والأمة

يُعرِّف علماء السياسة والاجتماع الدولة بأنها هي الشخص المعنوي الذي يمثل أمة تقطن أرضًا معينة، وتكون السيادة بيده.

فالدولة هي جهاز نظامي اقتضاه الواقع، وهو وجود الأمة، ووجود الأرض التي تقيم عليها.

أما الأمة فهي مجموعة كبيرة من البشر، تجمعها روابط عديدة من الدم (الأصل المشترك)، واللغة، والعقيدة، والعديد من الروابط المشتركة الأخرى، كالمصالح والتكوين الثقافي والاجتماعي.

 

والأمة كائن حي يمارس حياته عبر الزمن، فهي ليست جهازًا مثل الدولة، وهي سابقة عليه، ولا وجود لدولة بلا أمة، ولكن الأمة تحتاج إلى الدولة في بقائها واستمرارها وتطورها ونموها.

 

والأمة الإسلامية، هي التي تحدث عنها القرآن الكريم في عدد من المواضع، من أهمها وأعزها وأقربها إلى قلوب المسلمين قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ‌ أُمَّةٍ أُخْرِ‌جَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُ‌ونَ بِالْمَعْرُ‌وفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ‌[سورة آل عمران آية: 110.]

 

وتفضيل هذه الأمة على سائر الأمم، يتبع الإسلام وموجباته تبعية كاملة، إذ كان العرب في الجزيرة العربية يعيشون قبائل متفرقة متناحرة بالمعيار السياسي والاجتماعي، ولم يكونوا أمة إلا في ظل الإسلام، ولم يصبحوا خير أمة إلا بالإسلام، وهذا ظاهر في تفسير القرطبي للآية الكريمة: - قيل: منذ آمنتم-

.

فالأمة الإسلامية بنيت على رابطة (الدين) وهذه الرابطة في الإسلام، تمثل كل الخصائص التي تميز هذه الأمة عن غيرها.

 

الدين ليس العقيدة التي يؤمن بها الإنسان ولا يكون لها مردود أو تأثير في حياة الفرد أو المجتمع، ولكنه الدين الذي يتمثل في العقيدة التي تحرك قلب الإنسان وعقله، وفي القيم الخلقية التي تحكم سلوك الإنسان نحو غيره من الناس، وفي النظام الاجتماعي الذي يحكم علاقات البشر فيما بينهم وفق أحكام واضحة.

 

إن الدين ليس مجرد عنصر في بناء الأمة، ولكنه أهم العناصر التي تجمع خصائص البشر العقلية والنفسية، وتوجه سلوكهم الفردي والجماعي، ومن الخطأ النظر إلى الإسلام كما ينظر الغربيون إلى (الدين) في بناء الأمة، إنه مجرد عقيدة لا تكاد تمس أحدًا سوى صاحبها، وهي بذلك تنحدر حتى تغدو أهون الروابط والعناصر في تكوين الأمة، كالجنس أو اللغة، وهذه الروابط على الرغم من أهميتها لا تكوِّن أمة واحدة بذاتها، فهناك مثلًا روابط مشتركة من العرق ومن اللغة أيضًا بين إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، ولكنهما لا يكوِّنان أمة واحدة، وكذلك الحال بين فرنسا وأجزاء من كندا.

 

ومن أجل ذلك كان بناء الأمة الإسلامية على الإسلام وجوانبه المتكاملة التي تكوّن خصائص الإنسان المسلم العقلية والنفسية، هو السبب في وحدة هذه الأمة: إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَ‌بُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[سورة الأنبياء آية: 92.]

 

وهو السبب أيضًا في تميزْها: كُنتُمْ خَيْرَ‌ أُمَّةٍ أُخْرِ‌جَتْ لِلنَّاسِ[سورة آل عمران آية: 110.]

 

وتعدّد الدول الإسلامية في الوقت الحاضر، لا يخل كثيرًا بوحدة الأمة التي أكدها القرآن الكريم، فالأمة - كما ذكرنا من قبل- ليست هي الدولة، وفي وقت مبكر من تاريخ الإسلام السياسي وُجدت الدولة الإسلامية في المشرق والدولة الإسلامية في المغرب، وكان ذلك في عصر الدولة الأموية (41- 132هـ) وهو عصر ازدهار وتوسع إسلامي. فالأمة الإسلامية هي واحدة بنص القرآن الكريم، تتحقق وحدتها بتوحد الغايات والخصائص والأهداف، وباتخاذ التعاون والتآزر والتكامل منهجًا فكريًّا وعمليًّا في علاقات الدول الإسلامية بعضها ببعض، وذلك التوحد أقوى بلا شك من أشكال النظم السياسية المتعارف عليها في والوحدة أو الاتحاد.

 

إن الدولة المنظمة لم تكن ظاهرة قبل الإسلام في الجزيرة العربية، إذ كانت العصبية القبلية هي التي تكوِّن الجماعة، ولكن الإسلام أقام دولته على (الدين)، ولم يحارب الإسلام القبيلة، ولا هدم ما يجمعها من علاقات سوية: أسرية أو اجتماعية. وحين بنى عمرو بن العاص مدينة الفسطاط بمصر أنشأها خططًا، وجعل لجند كل قبيلة خطة لهم دون غيرهم يعيشون فيها، مع اجتماع الجند كلهم على غاية واحدة هي الجهاد لنشر دعوة التوحيد.

 

وفي العصر الذي نعيش فيه ينقسم أكثر المجتمع الدولي إلى دول متعددة، تحيا داخل حدود إقليمية، معترف بها، وتحميها قواعد القانون الدولي، بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الدين.

 

وصفة المواطنة المترتبة على جنسية الدولة هي الفيصل في الانتماء، دون نظر إلى الجنس أو الدين في كثير من الأحوال.

 

بينما الفيصل في الانتماء في الدولة سلامية هو الدين، ويتطلب الإسلام فيمن يعيش في أرضه، وتحت دولته من غير المسلمين أن يكونوا من أهل الكتاب أو المجوس، وأن يخضعوا لحكم الإسلام ويدفعوا الجزية، ما لم يكن المسلمون في حالة ضعف فإن الأمر يختلف، كما كان المسلمون في مكة المكرمة، قبل الهجرة وقبل الفتح.

 

ولقد استقرت الدول الإسلامية في العصر الحديث داخل حدود معينة، ولكل منها شعبها وجنسيتها ونموذج حياتها.

 

وذلك لا يمنع أن تظل الأمة الإسلامية أمة واحدة كما أرادها الله.

إن النظام الدولي في العصر الحديث يهتم (بالدولة) وليس (بالأمة) من حيث تكوينها وخصائصها العقدية والفكرية والنفسية التي تميزها، وهو ما اهتم به الإسلام، وهو في الحقيقة أولى بالاهتمام.

 

ولا بد من الإشارة إلى المعيار الذي يتخذ لمعرفة هوية الدولة، وما إذا كانت من الدول الإسلامية، وهي مسألة لقيت اهتمامًا كبيرًا في العصر الحديث، وفي السنوات الأخيرة بالذات، ولا شك أن أول معيار يرد في هذا الشأن، هو ما يمثل الحقيقة والواقع، فالشعب المسلم في أغلبيته الساحقة أو في مجموعه، ينبغي أن تكون دولته إسلامية، وهذا هو المعيار الذي ساد لعدة قرون، لأنه يطابق الواقع، وهذا المعيار ظاهر في دولة إسلامية كثيرة لم يثر الشك يومًا في انتمائها للإسلام شعبًا ودولة.

 

ولمِا طرأ على المجتمع الدولي من تغييرات تعلقت بتحديد إقليم الدولة وحدودها، وعلى أثر الحروب - لا سيما الحرب العالمية الأولى- (1914- 1918م) انهارت إمبراطوريات كبيرة (كالإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية المجر) ونشأت دول تضم العديد من الأعراق واللغات والأديان (كما في أوروبا الشرقية بالذات) ووقِّعت عدة معاهدات تنظم التعامل مع الأقليات التي تضمها تلك الدول، تحت رعاية عصبة الأمم، ووضعت نظم وإجراءات تتعلق بشكاوى الأقليات التي تعيش في بلد يختلف عنها عرقيًّا أو لغويًا أو ثقافيًّا أو دينيًّا.

 

وفي قارة أفريقيا، ونتيجة للهجمة الاستعمارية الشرسة على القارة في القرن التاسع عشر الميلادي، واستيلاء بعض الدول الأوروبية، مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا على أقاليم إفريقية كثيرة، نشأت دول إفريقية تضم مختلف الأعراق والأديان واللغات واللهجات، فلما استقلت هذه الدول في النصف الثاني من القرن العشرين، واجهت مشكلاتها التي تتعلق بتعدد الأعراق واللغات واللهجات والأديان في دولة واحدة، وفي كثير من الأحوال كان يصعب تحديد الهوية الدينية، إذ كان ذلك يخضع في بعض الأحيان لرغبات الحكام، أو لتأثير خارجي لا يمكن دفعه بالذات في بعض الدول الأفريقية، لا سيما وأنه لم تكن هناك إحصاءات يوثق بها، يمكن أن تكون فيصلًا في تحديد الهوية الدينية لدولة معينة، وإزاء ذلك، اتخذت (المواطنة) مبدأ يمنع التفرقة بين المواطنين بحسب العرق أو اللون أو الدين.

 

وعلى الرغم مما وقع من ممارسات كثيرة خاطئة، ليس هذا محل تفصيلها، فإن صيغة (المواطنة) ظلت الضمان على المستوى المحلي والدولي للحفاظ على حقوق من يختلفون عن أغلبية شعب ما، في العرق أو اللغة والثقافة أو الدين، وهي الحقوق التي يطلق عليها "حقوق الإنسان".

 

ولقد لجأت بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام لظروف واكبت نشأتها، أو استقلالها إلى تأكيد صفة المواطنة لجميع أفرادها، وأنه لا تفرقة بينهم في المواطنة، ونصت بعض الدول الإسلامية في دساتيرها على (علمانية الدولة) وهذا ما يعد شططًا غير مقبول، ذلك أن التسوية بين المواطنين في حقوق المواطنة، لا يستلزم نزع هوية الدولة الدينية، وهي الهوية الحقيقية، والتي تتمثل في أن شعبها في أغلبيته الكاسحة هو شعب مسلم.

 

ولا شك أن الظروف السياسية ورغبات الحكام في وقت معين، قد فرضت هذا الأسلوب الذي يصطدم مع ما يؤمن به الشعب، ومشاعره، ونمط حياته الذي استقر عليه منذ قرون.

 

الدين والدولة

الدين لغةً: هو الطاعة والانقياد والتسليم، والتدين، هو: الرضوخ والدينونة بعقيدة.

وأما المعنى العام للدين، فهو: ناموس أبدي كامن في فطرة الإنسان وتعيه الفطرة السوية، وهو أقدم نزعة سامية في الإنسان، حتى يمكن أن يقال: إن الإنسان والدين متلازمان، فهو يسد حاجة الروح، كما يسد الطعام حاجة الجسد، ولا حياة لإِنسان إلا باجتماعهما، يقول الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚفِطْرَ‌تَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ‌ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚلَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ‌ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[سورة الروم آية: 30.]

 

والتدين الحق، هو طاعة الله سبحانه باتباع ما جاء به رسوله خياله في العقيدة والتشريع، كما في كتاب الله وسنة رسوله.

وفي تحديد مسؤولية الدولة الإسلامية عن الدعوة إلى الله، وهي موجهة إلى الإنسان، يحتاج الأمر إلى معرفة التصور الإسلامي الصحيح، لعلاقة الدولة بالدين والدعوة له.

لقد نشأت قبل الإسلام دول وإمبراطوريات وممالك كبيرة، كما في مصر وبلاد فارس والروم، كانت الدولة تقوم وتمارس حياتها وتبسط سلطانها وفق ما يقرره حكامها، لا يحدهم في ذلك قيد.

 

ولم يكن (الدين) في هذه الممالك سوى أحد عناصر السلطة التي تهيمن على المجتمع، بمعنى العقيدة التي يعتقد بها الحاكم، أو يؤمن بها، أو يقتنع بها لأي سبب كان، فيفرضها على شعبه، وأكبر الأمثلة على سيطرة الحكام على دين الدولة أو معتقدها الديني ما حدث في النصرانية، فقد قاومت الدولة الرومانية، التي كانت تسيطر على معظم أقاليم الشرق العربية، النصرانية التي دعا إليها المسيح عليه السلام، باعتبار أن الدين الجديد يهدد سلطانها ويفتن شعبها، وبلغ الأمر في العداء والمقاومة أن تعرض عيسى عليه السلام للأذى، نتيجة تآمر اليهود ضده، وحدث ما قيل كذبًا من أنه قتل على الصليب، وبعد رفع المسيح عليه السلام ظل أتباعه في الدولة الرومانية على النصرانية، ثم حدث الخلاف في شأن طبيعة المسيح عليه السلام، وكان من أتباعه من يؤمنون بعقيدة التوحيد، ومنهم من تأثر بعقائد وثنية قديمة من مصر والهند، تقول بالتثليث الذي دخل على النصرانية، فأفقدها صفة الدين الحق حتى يومنا هذا.

 

واختار الحاكم الروماني لشعبه عقيدة التثليث في عهد الإمبراطور قسطنطين، في مجمع نيقيه 325م، أي بعد رفع المسيح عليه السلام بنحو ثلاثة قرون، وتؤكد الدراسات، ومنها دراسات أعدها متخصصون في اللاهوت النصراني، أن الأغلبية في مجمع نيقيه لم تكن مع عقيدة التثليث، ولكنه اختيار الحاكم لعقيدة شعبه، كما كان الحال في إمبراطورية فارس والممالك الكبرى في الزمن القديم.

 

أما الإسلام، وهو عقيدة دينية، ونظام اجتماعي متكامل، فلم يكن في أصله اختيار حاكم لشعبه.

فعندما أشرق النور الإلهي في مكة المكرمة لم يكن فيها نظام سياسي أو حتى نظام حكم معترف به، له السيطرة على القبائل العربية التي كانت تحيا حياتها في ظل نظام قبلي، يتصف بالتشرذم والتشتت والعصبية، وانعدام النظام الاجتماعي المتكامل، وهي حياة جاهلية، في نظام الحكم، وفي النهج الاجتماعي أيضًا، كما وصفها الله في القرآن الكريم.

وفي فترة ما قبل الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وفي مكة المكرمة، دعا الرسول صلوات الله عليه وسلامه إلى دين الإسلام، وعلّم السابقين من المؤمنين العقيدة الدينية، والمنهج الخلقي المرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، وظل يدعو إلى الإسلام على الرغم من كل التحديات والصعاب، والتي كان مصدرها كبراء مكة وسفهاءها، إذ كانوا يرون في الدين الجديد عقيدة تدمّر ما هم عليه من شرك، وتمهد لحياة اجتماعية وإنسانية راقية لا عهد لهم بها، وتضر بمصالحهم وأسلوب حياتهم.

 

لم تكن في مكة المكرمة دولة ولا حكومة ولا سلطة سياسية، بل فيها سلطة أكثر ما يقال عنها: إنها (سلطة أبوية) كما يقول علماء الأنظمة السياسية، وهي سلطة شيخ القبيلة على أفرادها، ولم تكن هناك أحكام ملزمة من جانب سلطة معينة، بل كان الحكم للأعراف والتقاليد والمصالح والأهواء، فعندما بُعث الرسول صلوات الله عليه وسلامه، لم يُبعث في أرض تسيطر عليها دولة، ولم يخضع rلسلطان دولة.

 

كانت المعارضة والمقاومة من جانب السفهاء من أهل مكة، وكان جانب من التعدي أو التعسف من جانبهم ينهار أمام هيبة النبوة، وأمام تأييد بعض شيوخ مكة من أهله.

ذلك أمر لم يسبق في تاريخ اليهودية أو النصرانية، فقد أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون مصر، وكان سلطانه على مصر وشعبها ومن يقيم بها قاهرًا، إذ كانت مصر دولة مستقرة ولها نظام سياسي واجتماعي محدد، ولذلك فإن فرعون مصر قال لموسى عليه السلام فيما يقصه الله في القرآن الكريم: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـٰهًا غَيْرِ‌ي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[سورة الشعراء آية: 29.]

بينما كان أعظم ما يرجو سفهاء مكة من الرسول rأن يتركهم وشأنهم، وأن يترك آلهتهم، فلا يتعرضون له، فكان ضعفهم ظاهرًا أمام جلال النبوة، وصلابة الرسول rفي إبلاغ الدعوة.

 

وكان الحال حين بُعث عيسى عليه السلام، أن اليهود كانوا مع الوثنيين الرومان، خاضعين للحكم الروماني، ولولاة الإمبراطور الروماني على الشام، وكان القانون الروماني مطبقًا في أقاليم الشام، وبعث المسيح عليه السلام في ظل تلك الدولة، وكان يدعو إلى الله فقاومته الدولة وحاولت التخلص منه ومن دعوته.

 

وستتبين في المحور التالي علاقة الدولة بالدين، والدعوة إليه، في التصور الإسلامي، وأن الدولة تقوم على الدين والدعوة إليه، وتطبيق أحكامه وحدوده، وحراسة أهله وبلادهم، وأنها علاقة فريدة تختلف عن النظم البشرية قديمًا وحديثًا، مما ينبغي أن يكون واضحًا لا لبس فيه، حتى لا تستعار مصطلحات غير إسلامية، فيقع الخلط والخطأ في تطبيقها على مجتمعات إسلامية.

 

 

الدولة والدعوة في التاريخ الإسلامي

قيام الدولة في عهده وخلفائه بواجب الدعوة

حين وصل النبي صلوات الله عليه وسلامه إلى المدينة المنورة، استقبله أهلها بالترحاب على مشارف المدينة، وكان منهم من سبق أن بايعه rفي مكة في بيعة العقبة - الأولى والثانية - ومنهم من آمن به وانتظر أن يلقاه في المدينة، وعند وصوله المدينة صلوات الله عليه وسلامه مهاجرًا - لا غازيًا ولا فاتحًا - دان له الناس بالطاعة، فقد كان ظاهرًا أن النبي rهو الإمام الأعظم للمسلمين، وأن أحدًا لا يشاركه أو ينازعه الأمر، وأن له السيادة على المدينة بشرع الله Uفلم تنشأ الدولة الإسلامية بطريق العنف، أوقهر الناس على عقيدة.

 

وفي حياة النبي rفي المدينة بعث السرايا، وجهز الجيوش للجهاد في سبيل الله، وقضى بين الناس بالحق، وولى من شاء على أي عمل أراد، وتولى تعليم الناس أمور دينهم ودنياهم، وجمع الأموال، وقسم الغنائم، وفي كل ذلك لا يرد له أمر، لأن رد أمره rكفر صريح.

كانت مهمة رسول الله rالأولى، وغايته الأساسية دعوة الناس إلى الإسلام، وإبلاغهم رسالة ربه، وكان ذلك الهدف الأول في علاقات الدولة الإسلامية الأولى مع الكيانات والدول الموجودة.

لقد تم إبلاغ رسول الله rالدعوة عن طرق عدة، أهمها:

 

1- طريق البعوث والرسائل إلى الملوك والحكام، فقد كاتبهم يدعوهم إلى الله.

روى مسلم وغيره من حديث أنس t{ أن نبي الله rكتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى }مسلم الجهاد والسير (1774) ، الترمذي الاستئذان والآداب (2716). كتاب الجهاد والسير، باب كتب النبي إلى ملوك الكفار يدعو إلى الله شرح النووي 5: 166.

وروى البخاري عن ابن عباس t{ نص كتاب النبي rإلى هرقل عظيم الروم، وفيه: أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين }البخاري الجهاد والسير (2782) ، مسلم الجهاد والسير (1773) ، الترمذي الاستئذان والآداب (2717) ، أبو داود الأدب (5136) ، أحمد (1/263). كتاب بدء الوحي، فتح الباري 1: 31- 32.

{ وفي كتابه rإلى كسرى عظيم فارس: أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيًّا ويحق القولُ على الكافرين. أسلم تسلم} البخاري الجهاد والسير (2782) ، مسلم الجهاد والسير (1773) ، أحمد (1/263).

انظر نصب الراية للزيلعي، دار المأمون، القاهرة 4: 420.

وقد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى في الجزء الأول فصلًا خاصًّا في بعثات الرسول rإلى الملوك بلغت قرابة السبعين(ط. دار صادر، بيروت ، 1: 258 – 291) .

 

2- طريق الوفود. كما كان تبليغ الدعوة، وتعليم الناس الدين يتم عن طريق الوفود التي تفد على النبي rراغبة في التعرف على دين الله، فيفدون إليه، ويتلقون الدين منه ويعرض الدعوة عليهم، وقد عد ابن سعد رحمه الله في كتابه الطبقات واحدًا وسبعين وفدًا وفد إلى المدينة النبوية  ( 1: 291 - 359 .)

 

3- كما كان rيعلم صحابته الكرام دين الإسلام في بيته وفي مسجده وفي مختلف المناسبات والأمكنة.

 

كان قدوتهم، ينظرون ماذا يعمل فيعملون مثله، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه. وبذلك تأهلوا لحمل رسالة نبيهم من بعده، فنشروها في العالم، وبلغوها خير تبليغ.

 

لم تكن الدولة التي قامت في المدينة المنورة، تطورًا اجتماعيًّا من الأسرة إلى العشيرة، إلى القبيلة، إلى المدينة، ثم الدولة، كما حدث في التاريخ القديم لدولة الإغريق أو الرومان. قامت دولة الإسلام في الأرض، أقامها النبي والرسول والإمام الأعظم للمسلمين، وهي دولة فريدة في نشأتها، وفي رسالتها، وفي ممارسة حياتها.

 

لقد قامت الدولة بكل عناصرها. الشعب والأرض والسيادة، ونظم هذه الدولة الأساسية وردت في القرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول rوسيرته المطهرة، وهي قواعد تنتظم شؤون الحياة كلها، تتصل بنظام الحكم وعلاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالدولة والمجتمع، وعلاقة المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات التي تسالمه أو تحاربه.

لا شبهة في قيام الدولة الإسلامية الأولى في تاريخ الإسلام السياسي على (الدين)، ولا شبهة في أن أهم واجباتها كان الدعوة إلى الله. كانت الدعوة إلى سبيل الله، هي التنظيم الاجتماعي الجديد في هذه الدولة، من أجل أن يكون المسلم في هذا المجتمع، هو الإنسان الذي شرفه الله تعالى بالخلافة في الأرض، لعبادة الله وحده لا شريك له، وتعمير الأرض بالحق والخير والسلام، ولقد كان إمام الدعاة، هو الذي تولى تربية المجتمع الإسلامي الأول وتعليمه، وعلى يده الشريفة تعلم الصحابة.

 

وفي السنوات العشر التي أقامها الرسول rفي المدينة، نما المجتمع الإسلامي نموًّا مذهلًا، بحسب أصدق مقاييس النمو البشري ماديًّا ومعنويًّا، واتسعت المدينة المنورة وزاد العمران فيها.

 

أما البشر، فإن الذين شاهدوا النبي rوسمعوا منه ووعوا عنه، وهم الصحابة الذين رضي الله عنهم، وكفى بهذا تعديلًا، وهم الذين حفظ التاريخ قدرهم، هم المواطنون في الدولة الإسلامية الأولى، وهم الأمة الإسلامية الأولى، في كمال بنائها، ورفعة خصائصها.

لقد قامت في المدينة المنورة دولة الدعوة، كما قامت الأمة التي تحمل رسالة معينة، وتتولى الدولة حمايتها في أداء رسالتها.

 

والدولة الإسلامية التي قامت في المدينة، قامت على الدين، فهو أساسها، وعلى حفظه والدعوة إليه منهجًا لحياتها ورسالتها، وكان ذلك مصدر فخر واعتزاز للأمة الإسلامية كلها ودافعًا لها على التمسك بعقيدتها وشريعتها ومنهاج حياتها، وهو ما كان يميزها عن أمم الأرض التي نشأت دولها بالقهر، وخضعت في اختيار منهج حياتها إلى إرادة الحكام، وهوى البشر على اختلاف الأزمنة والعصور.

 

التزام الدول الإسلامية في التاريخ الإسلامي بالإسلام ودعوته

وفي القرون التي تمثل ازدهار حضارة الإسلام، كان الاعتزاز بإسلامية الدولة وعالمية دعوتها وقدسية رسالتها.

 

ولم يحدث في وقت من الأوقات، في التاريخ السياسي للإسلام، أن اعتبرت الدولة. أن الدين مجرد العقيدة التي يؤمن بها الفرد، ولكنه كان بالنسبة إلى الدولة الإسلامية، منهج حياة كاملًا، في العقيدة، وفي القيم الخلقية، وفي النظام الاجتماعي الذي تحكمه أصول الشريعة وقواعدها.

 

فمنذ بداية الدولة الإسلامية، وهي تعتبر أن حفظ الدين وأهله، أهم ضروراتها، وأول واجباتها، وأن الدعوة إلى سبيل الله، مسؤولية مباشرة، على الدولة أن تقوم بها، وكان الاقتناع كاملًا بأن السبيل الوحيد لتقدم الأمة ماديًّا وروحيًا، هو التمسك بالإسلام ومنهجه والحفاظ عليه داخليًّا وخارجيًّا وفي كل ما كتبه الفقهاء المسلمون في أصول الفقه وفروعه، لا سيما في عصر نشأة الفقه الإسلامي، وازدهاره (80- 240هـ) تتضح مفاهيم وقواعد لا يرقى إليها الشك، وفحواها أن الدولة أساس شرعيتها أنها دوله إسلامية، وأول الضروريات التي ينبغي الوفاء بها من الدولة، حفظ الدين وجماعة المسلمين؛ وأهم واجباتها، العمل على نشر الإسلام، بجوانبه جميعًا، وبكل الطرق والوسائل.

 

واستنبط فقهاء المسلمين أحكامًا في السياسة الشرعية الإسلامية، التي تجعل الأصل في تصرفات الحكام والسلاطين أو الخلفاء أن تكون مطابقة لأحكام الشريعة في جزئياتها، أو أصولها الكلية، بحسب الأحوال والتصرفات، ونشأ بذلك علم السياسة الشرعية، الذي يضمن عند تطبيقه، أن تكون الدولة إسلامية الأصول والتوجهات، مع مراعاة الواقع وتقلب الظروف والأحوال.

 

ومهما كان من تساهل بعض الحكام المسلمين، في تطبيق أحكام الشرع في أحوال أو ظروف معينة، فلم يكن ذلك خروجًا على الأصل المقرر المسلم به من الجميع، من وجوب الاحتكام إلى الدين، ولم يكن هذا التساهل مقبولًا من علماء الأمة.

وقد حقق ذلك الأصل، التزام الدولة به، وتمسكها به، منهج حياة متكاملًا للفرد والمجتمع، ولم يحدث أن بحثت الأمة الإسلامية قبل العصر الحديث، عن منهج اجتماعي آخر، لا يتصل بالإسلام ولا يستمد منه.

 

وقد وفر ذلك أساسًا فكريًّا ونفسيًّا واحدًا للأمة، لم يفرض عليها من خارجها، كما حدث في شعوب كثيرة في العصر الحديث بالذات.

ولكن ضعف الحضارة الإسلامية منذ بداية العصر الحديث، وبزوغ فجر النهضة الأوربية ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي، حمل إلى العالم الإسلامي ودوله تيارات فكرية وفدت عليه من حضارة تتأهب للسيطرة على العالم ماديًّا وفكريًّا، وهي حضارة مادية لا تتصل بالملأ الأعلى، ولذلك اختلفت مفاهيم هذه الحضارة، اختلافًا جذريًّا عن مفاهيم الإسلام.

 

إن سياسة العمران البشري في مفهوم الحضارة الغربية الحديثة، هي سياسة أمور الناس الدنيوية فحسب، فليست الدنيا طريقًا للآخرة، ولا هي معبر لها، كما في التصور الإسلامي الصحيح. إن المطلوب من الدولة، أن تدبر شؤون الناس في حياتهم الدنيا، والسياسة الناجحة هي ما يوصل الناس إلى أكبر جانب من مصالح الدنيا ونعيمها وملذاتها.

 

بينما السياسة في الإسلام، هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، وهي التي يكون معها الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، كما يقول ابن عقيل الفقيه الحنبلي. فالإنسان في الإسلام، عبد لله وحده لا شريك له، وهو يسعى في صلاح أمور دينه ودنياه، وله معايير شرعية يرجع إليها، في هذا الاستصلاح لدينه ودنياه.

ولكن الإنسان في مفهوم الحضارة الغربية، هو سيد هذا الكون، وهو يقف بطاقاته جميعًا عند تدبير أمور حياته الدنيوية للفوز بأكبر جانب منها، ومرجعه إلى غيره من البشر في أحكامهم وقوانينهم.

 

هي سياسة دنيوية في مضمونها وغايتها، وهي تنطلق في محتواها مما ذكره الله في القرآن الكريم عن أسلافهم الذين قالوا:  وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ‌ ۚوَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ[سورة الجاثية آية: 24.]

 

 

الدولة والدعوة في البلاد الإسلامية في العصر الحديث

تأثير الفكر الغربي في كثير من المجتمعات الإسلامية

في العصر الحديث ظهرت في أوروبا فكرة فصل الدين عن الدولة، بسبب ظروف تاريخية في أوروبا في بداية القرن الثامن عشر، وهو ما دعت إليه الثورة الفرنسية عام 1789موتقبله الأوروبيون بالترحاب، وكان لذلك أسبابه التاريخية من مسلك الكنيسة ورجال الدين في العصور الوسطى، ووقوفهم دائمًا في جانب الحكام المستبدين، ومقاومتهم لأي تقدم فكري أو علمي، وأهم من ذلك عجز الكنيسة عن أن تؤثر في المجتمع دينيًّا أو خلقيًّا، بل كان همها الأول، أن تنال نصيبها من الحكم الزمني في ممالك أوروبا، وهو أمر ضاق به العامة من الناس والمثقفون بوجه خاص، فكانت الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة تلقى استجابة من الجميع، وهي في نفس الوقت دعوة للتحرر من سلطان رجال الدين، وقد سبق ذلك محاولة الحكام في الممالك الأوروبية التخلص من سلطان الكنيسة والبابا، ومنع تدخل الكنيسة في سلطان الملوك والحكام، وقد ظهر ذلك في معاهدة وستفاليا عام 1648موالتي لم يشارك فيها رأس الكنيسة في روما، وكان له سلطان ديني على الملوك والأمراء، يصل إلى حد تهديدهم بالحرمان والطرد من رعويته الدينية.

 

وفي بداية العصر الحديث، بدأت وحدة الممالك الأوروبية، فكانت الوحدة الإيطالية عام 1879م، ثم الوحدة الألمانية عام 1881م، ونشأت الدولة القومية على أساس العرق، وكان ذلك يتفق مع إزاحة الدين وتقليل دوره في المجتمع، وبالتالي صارت القومية أساسًا للانتماء السياسي للجماعة، وهذا الأمر إن قبل في أوروبا، وفي الفكر الغربي عامة، والذي لا يمثل فيه الدين سوى جانب يسير من حياة الإنسان، فإنه لا يمكن قبوله في الإسلام الذي يعتبر فيه الدين أهم ضروريات الإنسان، كما يعد حفظ أهله أهم واجبات من يتولى أمر المسلمين.

 

والحقيقة أن الأفكار الغربية التي ظهرت في العصر الحديث، كان لها أثرها الكبير في كثير من المجتمعات الإسلامية، واختلف هذا التأثير بحسب الظروف السياسية لمختلف البلاد، وزاد هذا التأثير حدة في بعض البلاد الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، وظهرت "العلمانية" في فكر حركات التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الأولى، وبدأت بعض البلاد الإسلامية تستلهم من الغرب أسس مدينته الفاضلة، كما تخيلها هؤلاء.

 

فقد كان التقدم الغربي في النواحي المادية وبعض النواحي الفكرية، دافعًا للكثيرين إلى الاختيار بين أمرين إزاء الحضارة الغربية الصاعدة والمسيطرة: الانبهار أو الانهيار.

ونسي هؤلاء، أن هناك طريقًا ثالثًا ينجيهم من شر الاختيار الغربي الذي ذكرناه، هو التمسك بالإسلام نظامًا للحياة، بدءًا من جعله أساسًا في الانتماء، وانتهاءً باتباعه نظامًا في الحياة.

 

وقد انبرى بعض رجالات الإسلام للحفاظ على حق الأمة في هويتها ونظام حياتها، فبدأت العديد من الدعوات الإسلامية، في أوائل القرن العشرين الميلادي في البلاد الإسلامية، وكانت جميعها تعمل في ميدان التحرر الوطني، إلى جانب عملها في الدفاع عن الهوية الإسلامية، والتي كانت تدفع حركات التحرر الوطني، وتمدها بزاد فكري وعملي أصيل.

لقد كان الانتماء السياسي الإسلامي ظاهرًا، وظل الأمر كذلك حتى بدأ الوجه الآخر المقابل لهذا الانتماء، وهو وجه القومية، ثم بعد ذلك بسنوات وجه العلمانية، وأقل معانيها الدنيوية، التي تعتبر الحياة هي الغاية ابتداء وانتهاء.

 

لقد تأثرت كثير من الدول الإسلامية بدعوى القومية، وكان البعض يتخوف على مصالح الأقلية غير المسلمة من اعتبار الإسلام أساسًا للانتماء السياسي.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، تبلور الاتجاه القومي والوطني في غالب البلاد الإسلامية، وتكمن الخطورة هنا في اعتبار الاتجاه القومي أو الوطني مقابلًا للاتجاه الإسلامي.

 

إن الإسلام يستطيع أن يحتوي القومية تمامًا، بل وينقيها من مثالب التعصب الذميم للعرق واللون، وهو يحتوي الوطنية بسهولة أكبر، ولا يستلزم نفي كل الروابط أو الاستغناء عنها، فهو لا ينفي غيره من الانتماءات، وإنما يحاول تعديلها ودفعها إلى الأفضل فكريًّا وعمليًّا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الميلادي، ظهرت العلمانية التي تعادي الدين، ليس باعتباره رابطة للجماعة، بل قبل ذلك بكثير، باعتباره نظامًا أو منهجًا صالحًا للحياة في المجتمعات الإسلامية.

 

وحين ضعف شأن الدين باعتباره رابطة للجماعة في العصر الحديث، وظهرت القومية رابطة سياسية في معظم دول العالم، أثر ذلك في كثير من الدول الإسلامية، وكان التأثير في بعض البلاد شديدًا، نظرًا لنشاط حركة التغريب التي اشتدت وطأتها على كثير من المجتمعات الإسلامية، في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين منه، وبدأت فكرة إسلامية الدولة التي كان مسلمًا بها خلال قرون طويلة، توضع على بساط البحث، كما أن الإسلام تعرض للكثير من التحدي، وليس عن تجربة عملية، بل عن طريق الموجة المادية للعلوم الغربية، والتي دفعت جانبًا من الجماهير إلى خارج دائرة الاعتزاز بالمنهج الإسلامي، بل وإلى الرغبة في اتخاذ المناهج الوضعية - الأوروبية بالذات- منهجًا وطريقًا للتقدم السياسي والاجتماعي.

 

وقد نشأ عن ذلك. أن المنهج الإسلامي بدأ يتعرض للمزاحمة من الأيديولوجيات التي نشأت في القرن العشرين، والتي كان أهمها سياسيًّا واجتماعيًّا، الليبرالية الرأسمالية ثم الماركسية.

 

وعلى الرغم من فشل " الأيديولوجيات " السابقة، في كونها مؤشرًا للتقدم في المجتمعات الإسلامية، فقد ظلت الحركة العلمانية المعادية للدين وأهلِهِ في النمو، وإن كان أضعف من شأنها في السنوات الأخيرة، سقوطُ الماركسية في البلاد التي نشأت وتحكمت فيها عشرات السنين، وبقيت الحركةُ العلمانية وحدها تحاول جاهدةً إبعادَ الخيارِ الحضاري الإسلامي عن الساحة، وإخفاءَ عناصر التميز، ومؤشرات النجاح في هذا الخيار بالذات عن جماهير الأمة الإسلامية.

وشاء اللهُ أن يقوى في كثير من البلاد الإسلامية الانتماءُ إلى الإسلام، انتماءً يقطع الطريق على محاولة استبعاد الخيار الحضاري الإسلامي، وإخلاء الطريق أمام المنهج الوضعي الذي عانت المجتمعاتُ الإسلامية من الاعتماد عليه عشرات السنين، وأن يجذب جموعًا كبيرة من المسلمين كان الخيارُ الإسلامي بالنسبة لها، هو الخيارَ الوحيد الذي ينبغي أن يسود فكريًّا وثقافيًّا، والذي يتعينُ العمل من أجل إقامته سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا.

 

ارتباط موقف الدول الإسلامية من الدعوة بموقفها من الدين

لقد كانت مواقفُ الدول الإسلامية من الدعوة، متأثرةً إلى حدٍّ كبير بموقفها المبدئي من العلاقة بين الدين والدولة، وقد واجهت هذه العلاقةُ كثيرًا من سوء الفهم، بسبب ظروف سياسية واجتماعية ألَمَّتْ ببعض البلاد الإسلامية، كما أن علاقة الدين بالدولة، تعرضت على يد العلمانية وأصحاب المناهج الوضعية إلى محاولة فصل الدين عن الدولة، وإبعادِ الدولة عن الدعوة، وظهر ذلك واضحًا عند إعداد دساتير عديدة في بلاد إسلامية، كانت منذ قرون لا تماري في هذه الحقيقة، وقد أخذت بعضُ الدساتير بمبدأ "علمانية الدولة " ونصت عليه في دستورها بوضوح، كما أن بعض الدول الإسلامية لم تورد في دستورها أو نظام حكمها نصًّا يحدد هوية الدولة.

بينما حددت بعض الدول الإسلامية في دساتيرها هويةَ الدولة، والأصل التشريعي فيها. من أن الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع.

 

وبناء على موقف الدولة من الدين في البلاد الإسلامية في العصر الحديث، يوجد اتجاهان رئيسان في علاقة الدولة بالدعوة، وإسهامها فيها، واعتبارها ضمن واجباتها.

الاتجاه الأول: إنكار مسؤولية الدولة عن الدعوة، بل عن حفظ الدين أساسًا، إذ إن العلمانية، وهي في جوهرها لا تلقي بالا إلا للحياة الدنيا، لا يتصور أن يكون حفظُ الدين أحدَ مقاصدها أو الدعوة إليه، ضمن واجباتها السياسية أو الاجتماعية، ذلك أن السياسة في النظر العلماني تقتصر على تدبير أمور المعاش وحده بلا معاد، وأمور الدنيا دون الآخرة، ولذلك فإن الدولة ليست مسؤولة عن الدين، وقصارى ما تدعيه لنفسها من فضل، أنها تترك المتدينين وشأنهم في عباداتهم وشعائرهم، وهي في ذلك تتظاهر بالحياد بين الإيمان والكفر، وهي في الحقيقة إلى الكفر أقرب. وقد يكون هذا الإنكار واضحًا ومعلنًا بطريقة سافرة.

 

وفي هذا الاتجاه، وهو الأخذ بالعلمانية في دستور الدولة وسياستها، قد يتصور البعض أن تختفي الدعوة، وأن ينحسر الإسلامُ عن بلد مسلم يؤمن الملايين من شعبه بالإسلام عقيدة ويتخذونه منهجًا في حياتهم الفردية والجماعية.

إن تجاهل الدولة للدين أو محاربتها له، لم يجعل الإسلام لا يجد سندًا لانتشاره، أو ثباته في القلوب، ولم يجعل الدعوة إليه وإلى سبيل الله تختفي، لمجرد أن الدولة أو حاكمًا لا يريد الرشد سبيلًا.

 

إن الخطأ الأساسي في علمانية الدولة التي تأخذ بها بعض الدول المنتسبة إلى الإسلام، أنها تظن أن القومية لا يمكن أن يكون لها اعتبار في ظل الرابطة الدينية مع أن الدين يهذب القومية ويحاول الاستفادة مما قد تحمله من منافعَ للناس.

 

وعلى سبيل المثال. فلم يكن هناك تناقض بين الإسلام وبين العروبة، فأثر الروح الدينية في نشأة الأمم وانتشار حضارتها، يبدو واضحًا في تاريخ العرب بعد الإسلام.

 

ويشير أحد الباحثين، غير المسلمين، وهو الدكتور يوسف خليل إلى "أن الإسلام يعتبر لكونه دين الكثرة الساحقة من الشعوب الناطقة بالضاد، في طليعة القوى المعنوية التي تحرك الشعوب، ولم يلبث أن ساد المنطقة برمتها، فكان عاملًا من عوامل توحيدها في وقت وجيز، وليس من الديانات الأخرى ما نجح نجاحًا كليًّا في توحيد هذه المنطقة الواسعة قبل ظهور الإسلام ".

 

أمر آخر لا ينتبه إليه الداعون لإحلال القومية محل الدين في بناء الدولة، وهو أن القومية لا تقدم لأتباعها فكرًا ولا منهجًا، ولا عقيدة تستريح إليها النفس، وهي لا تقدم سوى دفعة عاطفية عصبية، يستجيب لها الناس لتحقيق هدف معين، كتوحد شعوب لها قومية واحدة (كما حدث في الوحدة الإيطالية سنة 1879م، والوحدة الألمانية سنة 1881م) وبعد ذلك لا يجد الناس في القومية، منهجًا اجتماعيًّا أو حضاريًّا.

 

ومن أجل ذلك اعتبر الإسلام القومية، عاملًا من العوامل التي قد تساعد على التعارف، أو زيادته بين شعوب تنتمي إلى أصل واحد، ولكنها تعجز بحسب طبيعتها أن تحل محل الدين. لقد أخلى الإسلام القومية من التعصب للجنس، وأدان التعصب للأعراق والألوان، وجعله جاهلية بغيضة، لأن توجيه الإسلام في هذا الشأن ينبع من التسوية بين البشر.

{يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد. ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى }

 أحمد (5/411). أخرجه الإمام أحمد في المسند 5: 411، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.

 وهكذا جعل الإسلام من القومية عاملًا من عوامل ارتباط الجماعة، وهذب من أهدافها، ونفى عنها العصبية البغيضة للجنس واللون.

وأقصى ما يوجهه أصحاب دعوى القومية، وإبعاد الدين عن أن يكون أساسًا للجماعة السياسية من مآخذ على دولة الإسلام، أنها ربما لجأت إلى الاستبداد، استبداد رجال الدين، أو لجأت إلى التفرقة بين مواطنيها بحسب الدين.

أما استبداد رجال الدين، فقد عَرَفته الكنيسة في العصور الوسطى، وليس في الإسلام طبقة رجال الدين التي عرفتها أوروبا قرونًا طويلة، وليس فيه درجات كهنوتية، كالتي تنظمها الكنيسة حتى اليوم في البلاد النصرانية.

 

وأما الخوفُ من التفرقة بين المواطنين، فإن الإسلام يملك تشريعًا عادلًا وتوجيهًا في هذا الشأن تلتزم به الدولة الإسلامية، وفيه من التسامح والعدل في مصالح الدنيا ما يعرفه المتخصصون حتى من غير المسلمين.

 

فأين ما تقدمه القومية في هذا الشأن من توجيه؛ وهي بحسب طبيعتها لا تملكه أصلًا.

وخلاصة الأمر في هذا الاتجاه، وهو إنكار الدولة لمسؤوليتها عن الدعوة، واعتبارها عملًا خارجًا عن وظائفها ورسالتها، أنها حين تتقاعس الدولة عن الدعوة، وتنكر مسؤوليتها عنها لا تضيع الدعوة إلى الله ولا يزول صوتها، ربما يخفت هذا الصوت سنواتٍ عديدةً، ولكن المجتمع المسلم يظل محتفظًا به في ضميره، حتى يرتفع مرة أخرى، كما حدث في الجمهوريات الإسلامية، التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي الذي ذهب إلى غير رجعة.

أما الاتجاه الثاني:فهو إقرار الدولة بمسؤوليتها عن الدعوة، ووجوب الإسهام في أعمالها، وهو السائد في العديد من البلاد الإسلامية، وعلى الرغم من أن دساتير بعض هذه البلاد لا تصرح بأن الإسلام دين الدولة، إلا أن الواقع أهم من النصوص في هذا الشأن، ولا تستطيع الدولة أن تتنكر لواجبها في خدمة الإسلام، والدعوة إليه، والدفاع عنه، وحفظ أهله.

 

وتقوم الدول الإسلامية بالإسهام في الدعوة إلى الله حسب ظروفها وإمكاناتها، من خلال مؤسساتها الرسمية، وفي العديد من هذه الدول وزارات مختصة بالشؤون الدينية، أو الإسلامية والأوقاف، وهي تتصدى للعمل الدعوي، من خلال بناء المساجد والإشراف على حفظها وصيانتها، وكذلك الإنفاق على الدعوة والدعاة، من خلال نشر الكتب الإسلامية، وتعيين الأئمة والدعاة من قبل الدولة، والإشراف على الأوقاف الإسلامية، وصرف غلتها في الإنفاق على الدعوة والدعاة، طبقا للشرع وإرادة الواقفين.

 

 

ولا يقتصر الأمر في الاهتمام بالدعوة على الجانب الحكومي وحده، بل تقوم في البلاد الإسلامية مؤسسات وجمعيات دينية، تهدف إلى الدعوة إلى الله، سواء عن طريق العمل الخيري، أم التعليم الديني، أم تحفيظ القرآن الكريم، أم الإرشاد والتوجيه الخلقي، وبعض هذه الجمعيات يكون إسهامها كبيرًا، وله أثر بالغ في التنمية الاجتماعية.

ولا شكَّ أن إقرار الدولة بمسؤوليتها عن الدعوة، والإسهام في نشاطها، وفتح الباب أمام الأفراد القادرين والهيئات التي تملك الإمكانيات، يعود على الدولة والمجتمع بأجلِّ الفوائد، ذلك أن الدعوة إلى الله، تعد في الحقيقة إسهامًا كبيرًا في التربية والتعليم، وفي نشر الفضائل في المجتمع المسلم، على اختلاف من توجه إليهم الدعوة بحسب الشرائح العمرية، أو الانتماءات الأخرى للمواطنين.

إن نشاط الدولة في الدعوة عن طريق المساجد والدعاة الذين تنفق عليهم الدولة، له مردوده الكبير في الاستقرار الاجتماعي والتنمية الخلقية، إذ لا يقتصر الأمر على زيادة عدد المنتمين للدين فقط، كما هو شأن التبشير في النصرانية، بل إن الهدف الأساسي من الدعوة، هو تنمية المسلم فكريًّا وخلقيًّا ونفسيًّا، فالدعوة إلى الله تستهدف الارتفاع بالإنسان عن طريق الدين.

 

العقبات التي واجهت الدعوة في كثير من البلاد الإسلامية

وممارسة الدعوة في كثير من البلاد الإسلامية، تواجهها عقبات كثيرة، ربما ظهرت في السنوات الأخيرة بوضوح، فلا يكفي إقرار الدولة بمسؤوليتها عن الدعوة، ولا يكفي أيضًا أن تشرف الدولة على المساجد، وتقوم ببناء بعضها، وترتب أمور الأئمة والدعاة، وإن كان ذلك في مجمله قيامًا بجانب من الواجب الذي تفرضه إسلامية الدولة، ورسالتها تجاه شعبها، بل لا بد من إبعاد المعوقات التي تقوم في وجه الدعوة، ولا يستطيع علاجها وإبعادها عن طريق الدعوة سوى الدولة، وتعاون الدول والهيئات الإسلامية.

ومن أبرز هذه المعوقات في بعض البلاد الإسلامية، لا سيما الأفريقية التي استقلت حديثًا، ضعف الإمكانيات المادية والعلمية، وعذر هذه الدول أنها خرجت منهكة وفقيرة بعد عهد طويل من الاستعمار الأوربي، وهي تحتاج إلى الدعوة احتياجًا شديدًا، بعد أن تم تغريبها في الفكر والسلوك.

 

وهذه الدول لا سبيل أمامها إلا الانفتاح على الدول التي تملك الإمكانيات المادية والعلمية، كالمملكة العربية السعودية، وهو ما يجري الآن بالنسبة لكثير من الدول التي تقدم لها المملكة مساعدات هائلة ماديًّا وعلميًّا، عن طريق مؤسسات المملكة العاملة في حقل الدعوة على اختلاف صورها ووسائلها.

ومن أهم معوقات الدعوة في كثير من البلاد الإسلامية، آثار التغريب الثقافي والاجتماعي الذي تعرضت له هذه الدول.

 

ذلك أن النظام التعليمي في كثير منها، يأخذ بالأسلوب الغربي في التربية والتعليم، وهو يصطدم في كثير من أسسه التربوية مع المنهج الإسلامي، لا سيما في دراسة العلوم الإنسانية والآداب والفنون.

 

وإذا عرفنا أن النظام التعليمي في أي بلد من البلاد، هو أهم العوامل في تنشئة الأجيال، أدركنا خطر ابتعاد النظام التعليمي عن مجال الدين والدعوة إليه، والانفصال القائم بينهما في بعض البلاد، حيث لا يتلقى الناشئة قدرًا كافيًا من المعرفة بالإسلام في العبادات والمعاملات، ولا يوجد اهتمام يذكر بالتربية الإسلامية إلا باعتبارها قدرًا من المعلومات، وليس تدريبًا ومراقبة للسلوك والأخلاق.

 

إن المدرسة في النظام الغربي، ليست مكانًا لتعليم الدين، ولا لمراقبة السلوك والأخلاق، وقد سرى ذلك العيب الخطير إلى المدرسة في كثير من البلاد الإسلامية، وحتى ينتهي الطالب من المرحلة الجامعية، فإنه لا يتلقى من حفظ القرآن الكريم ومعرفة الحديث النبوي وأصول العقيدة الإسلامية، وقواعد المعاملات الشرعية إلا القليل.

 

وهنا مكمن الخطر الذي ظهر أخيرًا في اندفاع بعض الشباب إلى التصرف على نحو يخالف أصول الإسلام مخالفة ظاهرة، بمجرد أن يدعى إلى ذلك باسم الدين، أو تحت شعار الدعوة.

 

ومن المؤسف والمؤلم، أن البعض في مواجهة هذا الخطر، يخيل إليه أن سببه، المعرفة بالدين، أو الرغبة في خدمته.

 

إن المعرفة الصحيحة والكافية بالدين في العقيدة والشعائر والعبادات، وفي القيم الدينية وأصول المعاملات، هي العاصم الوحيد من الانحراف والوقوع فيما تشكو منه مجتمعات إسلامية عديدة.

 

وبهذه المعرفة، يستطيع النظام التعليمي أن يُخرج الشباب المسلم الواعي بدينه من جميع جوانبه.

فالحرمان من الدين والجهل به، هو الذي يدفع للانحراف بالدعوة إلى الله، وحتى لو حسنت المقاصد والنوايا، فالمعرفة الصحيحة بأحكام الدين، هي أول عناصر التصحيح في هذا الانحراف.

 

كذلك، فإن النظام الإعلامي في بعض البلاد الإسلامية، يأخذ بالأسلوب الغربي، القائم على الإبهار والإثارة، وتسلية جماهير الناس لقتل الوقت، وفي الغالب لا يلتزم الإعلام فيها فيما يقدمه بالقيم الدينية، أو حتى بكثير من القيم الخلقية، وهذا الإعلام المفتوح لكل الثقافات ولكل ألوان الإبهار والإثارة والتسلية، من أخطر العوامل التي تشكل فكر العامة، سواء فيما تقدمه أجهزة الإذاعة أم التلفاز، أم كثير من الصحف والمجلات والكتب.

 

إن بعض ما يقدمه الإعلام في بعض البلاد الإسلامية، هو صد عن سبيل الله، وهو مقاومة لتأثير الدعوة والدعاة في المجتمع.

وهذا الأمر تناولته الأقلام في كثير من البلاد الإسلامية، بل وعقدت من أجله الندوات والمؤتمرات، ولكن تمسك هذا الإعلام بالأسلوب الغربي، هو الذي يمنع تعديله بما يناسب شعوبنا الإسلامية.

والمطلوب، أن يكون الإعلام، ملتزمًا بغايات الدعوة وأهدافها، في تنمية الفرد المسلم، والمحافظة على القيم الدينية والخلقية.

 

 

ويحتاج أمر الدعوة في كثير من البلاد الإسلامية، إلى إيضاح كامل لمنهج التقدم والتنمية البشرية، هل هو المنهج الغربي القائم على تهميش الدين وتقليل أثره في بناء الإنسان؟ أو المنهج الإسلامي الذي يعتبر الدين أساسًا عقليًّا ونفسيًّا للإنسان المسلم؟

وكذلك يحتاج الأمر إلى إيضاح المرجع الذي يحتكم إليه عند الاختلاف، هل هو الإسلام أو غيره؟

إن هذا الإيضاح، يجعل منهج التطور والتقدم واضحًا، ولا يجعله نهبًا للهوى والغرض، أو العنف والاستبداد أحيانًا.

ومن شأن إيضاح المرجع الإسلامي في الدولة، أن يقضي بلا شك على الحيرة التي تواجهها مجتمعات إسلامية عديدة، تشعر بتناقض حقيقي في حياتها بين ما تسمعه في مساجدها، وما يتعلمه أبناؤها في مدارسها، وبين ما تبثه أجهزة إعلامها.

 

ربما ينظر البعض إلى التزام الدولة بالدعوة في عالمنا المعاصر، نظرة ريبة أو استخفاف بهذا الالتزام، فقد قامت الدولة في العصر الحديث في أوروبا، وغيرها من المجتمعات التي سيطرت عليها الحضارة الغربية بعيدًا عن الدين، كما أن الفكر الغربي منذ زمن طويل، نجح في فصل الدين عن الدولة، وحاول جاهدًا عزلة الدين عن المجتمع، وتهميشه في إصلاحه وتقدمه، ووجد هذا الفكر تأييدًا من جانب الذين تأثروا بالثقافة الغربية في بلاد إسلامية كثيرة، وطرحت قضية المنهج الإسلامي على بساط البحث، على الرغم من ظهورها ووضوحها في عقول المسلمين وقلوبهم، فالذين يريدون إبعاد الدين عن عمله القيادي في إصلاح المجتمع ونموه وتطوره، لا يجرؤون على نقد العقيدة الإسلامية في مجتمع مسلم، وهي العقيدة التي يدينون بها، ولكنهم يدعون إلى الإصلاح والتقدم الإنساني في كافة مجالات الحياة على أسس وضعية، لا أثر للدين فيها في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد، وبذلك ينعزل الإسلام عن حياة الناس، ويصبح مكانه الوحيد في القلوب أو في المساجد فقط، فلا ضرر عند هؤلاء من أن يكون الدين لله، أما الدنيا فهي خالصة للناس، يضعون شرائعها ويحددون قيمها وغاياتها.

 

 

ولكن ما استجد في العالم المعاصر من تغيرات سياسية واجتماعية، زاد من تهافت الفكر العلماني، وأضعف من شأنه، حتى عند من تلقوه في البداية بالقبول والتسليم والاتباع، فلم تؤد المناهج الوضعية البعيدة عن الدين، إلى ترابط مجتمعات إنسانية وسلامتها ورقيها، تستطيع الادعاء بأنها القدوة أو المثال لغيرها، لقد بدأ وضع الفكر العلماني على بساط البحث من جديد في البلاد التي ولد ونشأ فيها، وبدأ الحديث عن انهيار العلمانية (كما في عنوان ندوة عقدت في لندن دعا إليها مركز أبحاث الديموقراطية بجامعة- وستمنستر- في شهر يونيو سنة 1994مبعنوان. انهيار العلمانية والتحدي الإسلامي للغرب).

 

ولقد بدأ بالفعل انهيار مجتمعات علمانية كبرى، نتيجة متغيرات سياسية ظاهرة، وكذلك نتيجة تغيرات اجتماعية، ظلت تتراكم على مدى عشرات السنين، فالذين ظنوا أن الهروب من الدين، هو طريق النجاة لتقدم مجتمعاتهم، فوجئوا بأن هذه المجتمعات تبحث عن طوق نجاة آخر، وهي تشعر بالانحدار نتيجة وطأة المشكلات الاجتماعية، التي سببها إبعاد الدين ومحاولة عزله عن حياة الناس، وبدأت الدولة في الاهتمام بالدين باعتباره طوق نجاة، وبعد أن خيل للعلمانيين، أنهم نجحوا في التقليل من أثر الدين، وفي إبعاده عن قيادة المجتمع المسلم، طرحت قضية العلمانية وفشلها في البلاد التي نشأت فيها.

وهنا، لم تصبح الدعوة إلى الله وسبيله أمرًا خاصًّا بالدعاة، أو بشعائر الدين وعباداته فحسب، بل أصبحت أمر الدولة والمجتمع كله في اختيار طريق التقدم في الحياة، والقيام بحق الدين والدعوة إليه في العالم المعاصر.

فعلى الدول الإسلامية في أي موقع أن تبحث في واجبها ورسالتها في شأن الدين والدعوة إليه.

إن إهمال بعض الدول المنتسبة إلى الإسلام في العصر الحديث لأمر الدعوة، لم يؤدِ إلى اختفائها، أو نسيان المسلمين لواجبهم نحوها، بل على العكس من ذلك، أدى إلى محاولة قيام المجتمع بأفراده، أو طوائفه، أو جماعاته بأداء رسالة الدعوة، بعيدًا عن إشراف الدولة ورعايتها ودعمها للدعاة، ولمن يريدون خدمة الإسلام والدعوة إلى فهمه، فظهر الانحراف ببعض المفاهيم الإسلامية إلى مسارات أخرى، وظهر الدعاة الذين لم يتأهلوا بعلم ولم يتزودوا بقدوة، بل كان زادهم الوحيد في نشر الدعوة، هو الحماس العاطفي للإسلام.

ومنذ سنوات وبعض الدول الإسلامية، تشكو من سريان المفاهيم الدينية المختلطة والمضطربة في عقول آلاف الشباب.

وبسبب شيوع الأمية في بلاد إسلامية، وإهمال الدولة لواجبها في خدمة الدعوة والإشراف على أمورها، وتيسير وسائلها، ودعم علمائها، نشأ التطرف في بعض البلاد الإسلامية.

ولا ينكر أحد أن بعض من يتصدون لأداء رسالة الدعوة، لهم مقاصد سياسية واضحة، وهم يريدون استخدام الإسلام وليس خدمته، ويستميلون المشاعر الدينية لدى الناس، تحقيقًا لأهداف سياسية، لا يكون إصلاح القلوب والنفوس من بين أهدافها.

وهنا ينبغي أن تحافظ الدولة على سلامة الدعوة، وإخلاص الدعاة في العمل لخدمة الإسلام ومنهجه.

وواجب الدولة هنا في التصدي لهؤلاء، لا يصح إهماله أو تفويته، فثمة خلط ظاهر في بعض المجتمعات الإسلامية الآن بين أمور الدعوة وأهواء السياسة، مما ينعكس أثره على مفهوم الدعوة الصحيح، الذي يتطلب الإخلاص والتجرد لها، ومن أشد الأضرار على مسيرة الدعوة في أي بلد إسلامي، أن تلتبس بها أهداف وأغراض تخرج عن نطاقها. فالإسلام دين ودولة حقًّا، ولكن فهم ذلك، لا يدركه بعض من يخرجون على الدولة، ويمارسون العنف ضد غيرهم، أو ضد السلطة القائمة.

إن منهج الدعوة إلى الله واضح، وهو ما يجب أن يلتزم به الدعاة في كل الأحوال، كما أن واجب الدولة واضح، ويمكن أن يوجز في اتباع سياسة شرعية، لا تدع مجالًا لسوء التأويل، أو سوء التدبير.

 

 

الدولة والدعوة في المملكة العربية السعودية

خصوصية النشأة والارتباط بالدين

تتمتع المملكة العربية السعودية، بخصوصية فريدة بين دول العالم الإسلامي، فيما يتعلق بنشأة الدولة السعودية وعلاقتها بالدين، ثم علاقة الدولة بالدعوة إلى الله بعد ذلك.

فمنذ نشأة الدولة السعودية، وفي بدايتها، ارتبطت الدولة بالدين والدعوة ارتباطًا وثيقًا، وظل هذا الارتباط قائمًا في كل عهودها.

وقد وحّدها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - في ظل هذا الرباط الوثيق بين الدولة والدين والدعوة. وتابع خلفاؤه من بعده الحفاظ على هذه الخصوصية، التي تنفرد بها المملكة بين بلاد العالم الإسلامي كله.

وفي هذه الخصوصية تتمثل تجربة سياسية واجتماعية وحيدة في العصر الحديث، وهي بناء دولة حديثة، تكون قائمة على أساس الدين والدعوة إليه، باعتباره نظامًا اجتماعيًّا كاملًا.

وإزاء الوضوح والعزم والتصميم على بناء المملكة على هذا الأساس من حبل الله المتين، لم تفلح حركة التغريب، التي شملت غالب البلاد الإسلامية في المشرق والمغرب العربي، في التأثير على وجهة المملكة، ولا إضعاف حركة التحديث فيها، بل استقرت وجهة المملكة ومنهجها على أساس الشريعة الإسلامية، وفي نفس الوقت تسارعت فيها خطوات التحديث، بما يكفل تقدمها في كل نواحي الحياة، وبما يفوق التقدم الذي وصلته بلاد إسلامية كثيرة، فرطت في جانب من هويتها الدينية والاجتماعية، أملًا في إحراز التقدم بعيدًا عن المنهج الإسلامي المتكامل، وتقليدًا للمناهج الوضعية، التي ظهرت في العصر الحديث، طريقًا للتقدم والتحديث في المجتمعات الإنسانية.

إن تجربة المملكة في هذا الشأن، وهي التجربة الوحيدة في العصر الحديث، أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك، أن بناء الدولة على المنهج الإسلامي المتكامل، كفيل بنجاحها وتقدمها في شتى مجالات الحياة.

ومع ذلك، قد تجنبت المملكة العربية السعودية الآثار السلبية والخطيرة التي سببتها حركة التغريب في العصر الحديث، والتي ظهرت نتائجها في كثير من المجتمعات الإسلامية في المشرق والمغرب العربي، وفي كثير من البلاد الإسلامية في آسيا وأفريقيا.

هناك أوجه شبه في الظروف والأحوال، التي كانت تسود الجزيرة العربية عند قيام دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، وعند قيام الدولة السعودية الأولى في العصر الحديث، وقد كان ذلك دافعًا وباعثًا على أن يكون الاقتداء والاهتداء، واختيار الطريق والوجهة في بناء الدولة الحديثة في المملكة، بما كان عليه النبي rوصحبه، حين ظهرت أمة الإسلام، وقامت دولته في المدينة المنورة.

فحينما بعث الرسول صلوات الله عليه وسلامه في مكة المكرمة، لم يكن في الجزيرة العربية كلها سلطة سياسية موحدة أو مسيطرة، بل كانت الجماعة السياسية لا تزيد عن القبيلة، وكان الرومان والفرس يسيطرون على أطراف الجزيرة، وتخضع لهم القبائل، ويقيمون فيها حكامًا يدينون لهم بالطاعة.

أما الحياة الاجتماعية في تلك القبائل، فقد كتب عنها الكثير، لا سيما ما كتب عن مكة المكرمة أو يثرب أو الطائف، لأنها شهدت مبعث النبي rأو دعوته، وما لقيه في مكة من إعراض أو أذى.

كانت الحياة الاجتماعية والدينية، تموج بمختلف الرذائل، ولم تنقطع المنازعات والحروب بين القبائل، ولم يظهر في الجزيرة العربية من يستشرف جمع هذه القبائل وتوحيدها، فظلت دون جماعة سياسية، أو سلطة موحدة، يرجع إليها عند الحاجة، وربما عرف في بعض القبائل - مثل قريش- رجال لهم تجربة، ولهم في أهلهم وعشيرتهم فضل، فكانوا أهل الرأي أو المشورة في القبيلة.

ظل رسول الله rفي مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله، وبدأت أمة الإسلام في الظهور من السابقين في الإيمان، حتى أذن الله لرسوله بالهجرة، وحين وصل الرسول إلى المدينة مهاجرًا، استقبله أهلها، وبذلوا الطاعة عن إيمان وتسليم، وبنى الرسول rالمسجد النبوي، وأقام أحكام الشريعة التي كانت تتنزل في القرآن الكريم، فقامت دولة الإسلام في المدينة.

ولقد ظلت دولة الإسلام، قوية مرهوبة الجانب في عصر الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، إذ لقيت دولتا الفرس والروم في عصر الخلافة الراشدة، هزائم كبيرة، وبدأ تحول النظام العالمي عنهما.

وظهرت بعد ذلك، قوة الإسلام واتساع دولته في العصر الأموي (41- 132هـ) ثم في العصر العباسي الأول.

وبعد ذلك دب الضعف في دولة الإسلام، وتولى أمرها ملوك وسلاطين ضعاف استولى عليهم مماليكهم وجنودهم، وانتهى الأمر بزوال الخلافة من بغداد سنة (656هـ) بعد أن دمرها التتار، فانتقلت إلى القاهرة.

وفي نهاية القرن الثامن الهجري، كان العالم الإسلامي يعاني من الانحطاط الفكري، وظل هذا الحال من التدني عدة قرون، حتى القرن الثاني عشر الهجري، والذي يصف أحد الكتاب غير المسلمين حال الدين فيه: " بأنه غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة سجفًا من الخرافات، وقشورًا من الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر الأدعياء والجهلاء ".

وكان الحال في نجد في الجزيرة العربية، مماثلا في السوء والانحطاط الفكري لما كان عليه العالم الإسلامي، وفي بعض الأماكن كانت تقام القباب، لتكون سوقًا للبدع والخرافات، وكانت الحروب الأهلية متأججة في أنحاء نجد، فكانت مفرقة بين دويلات وإمارات عديدة صغيرة.

في هذا العصر من الانحطاط الذي أصاب المسلمين في دينهم ودنياهم، ظهرت دعوة الإمام المصلح، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1115هـ- 1206هـ).

واتجه في أول دعوته إلى تجلية أمور العقيدة، والدعوة إلى تقويتها في نفوس الناس، وإلى محاربة الضلال، الذي ران على الناس في شعائر الدين، على الرغم من تفشي ذلك، وسطوة الباطل عند عوام الناس، ولكن صلابة الإمام في الحق، جعلته يصبر على الأذى في سبيل إصلاح عقائد المسلمين، التي أفسدها الجهل على مر القرون، فدعا الإمام إلى اتباع السنة وترك البدع والخرافات والضلالات، وزاد من المشقة التي تواجهها دعوة الإصلاح، أن كل ناحية من نواحي الجزيرة العربية كان لها أمير أو فيها قبائل متناحرة، ولاقى الشيخ في أول عهده بالدعوة عنتًا من الناس، أو غدرًا من بعض أصحاب النفوذ، فتوجه إلى الدرعية في سنة 1157هـ وفي هذه البلدة لاقى النصرة على يد الإمام المجاهد الأمير محمد بن سعود رحمه الله.

كان الأمير محمد بن سعود معروفًا بالصلاح والاستقامة وحب الدين وأهله، فلما عرض عليه الشيخ دعوته الإصلاحية قبلها بالترحاب، ورأى فيها عودة ميمونة إلى ما كان عليه الرسول rوصحبه، وسلف الأمة الصالح، ووعد الشيخ بنصرته في نشر دعوته، وتعاهدا على ذلك، فانفتح باب النصرة لدين الله، بانتصار الأمير للدعوة وحمايتها، وقد أثمر الإخلاص بين الرجلين والتعاهد على نصرة الحق وأهله، فزادت الدعوة انتشارًا، وزادت الإمارة انتصارًا، فامتدت الدعوة إلى خارج حدود نجد، وتخلل ذلك حروب وقتال، كان النصر فيه حليف الدعوة وناصرها، وأكمل انتصار الدعوة والدولة خلفاء الإمام محمد بن سعود، حتى تم النصر، وانتشرت الدعوة في أكثر أنحاء الجزيرة.

لقد ذكرت طرفًا من سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن سيرة الإمام محمد بن سعود، الذي ناصر الدعوة حتى تم لها النصر على يده وأيدي أبنائه.

والقصد من ذلك، أن نشر الدعوة وإقامة الدولة، تم على يد الشيخ والأمير، وأن الدعوة لم تجد نصرًا إلا في ظل الدولة، وأن الدولة قامت على أساس الدعوة، والتزمت بحمايتها حتى ظهرت الدعوة، واتسعت الدولة، وتوحدت أرجاء الجزيرة.

فالصلة هنا بين الدين والدولة، لا تخفى على أحد، فقد نهضت الدولة لحماية الدين ونشر دعوته، وأخذت الدولة على عاتقها ومنذ البداية، أن تحمي حركة التجديد الإسلامية التي قام بها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهي دولة تحمي الدين، وتحمل عبء الدعوة، منذ النشأة الأولى للدولة السعودية.

وهنا نقطة ينبغي أن نشير إليها إشارة سريعة، وهي اتهام هذه الدولة أو هذه الدعوة، سواء في وقت قيامها أو فيما بعد، بالتحجر والضيق والطائفية، ووصفها أحيانًا بأوصاف ترمي إلى تنفير الناس منها. إن كل منصف يتتبع هذه الاتهامات يجد أنها جاءت من أعداء الدين الذين أرادوا أن تبقى البلاد الإسلامية كلها بعيدة عن المنهج الحق. ولذلك روّجوا وأكثروا من الدعايات الضالة، سواء أكان هؤلاء الأعداء من دول غير إسلامية أم من جماعات ودول في داخل البلاد الإسلامية، لها أهداف ولديها انحرافات عديدة. إن هذه الحقيقة ينبغي أن لا تغيب عن ذهن أي إنسان متجرد. فالذين تجردوا في البحث والدراسة من العلماء والمفكرين حتى من غير المسلمين وصلوا إلى هذه الحقيقة، وأدركوا أن دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) هي دعوة الإسلام الصحيحة في صفائها ونقائها، وأنها ليست دينًا جديدًا ولا مذهبًا جديدًا، وإنما هي دين الله الذي دعا إليه رسول الله rوقام على أساسه نظام المسلمين في مختلف عصورهم، وإن اختلف الناس في بعض الأعراف وأهل العلم في بعض الاجتهادات.

إن طبيعة العلاقة بين الدولة السعودية ودعوة الإسلام التي دعا إليها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب تعبر عن خصوصية أرادها الله للمملكة العربية السعودية في العصر الحديث، فاقترن تجديد أمر الدين بقيام الدولة القوية، التي تحمي الدين والقائمين بالدعوة إليه، وهي خصوصية تذكِّر بما اختص الله به هذه البلاد، حين وضع أول بيت للناس في مكة المكرمة فيها، وحين أسس الرسول صلوات الله عليه وسلامه دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة.

إنها خصوصية تاريخية تظهر في وجود أقدس مكان على الأرض في مكة المكرمة، وفي وجود المسجد النبوي الشريف في المدينة النبوية.

ولا ينفك ارتباط الدولة السعودية بالدين، في نشأتها، وفي بقائها واستمرارها ونموها وتطورها، مع هذه الخصوصية للمملكة، لأن الله تعالى أراد لدولة الإسلام - المملكة العربية السعودية - أن تكون حارسة مقدسات المسلمين، وحامية لهم في أرضها، حين يقصدون البيت الحرام في الحج والعمرة، أو يزورون المسجد النبوي، وكافلة لأمنهم وحاجاتهم، وهم يؤدون فريضة الإسلام وشعائره.

إن الدولة هنا، تؤدي فريضة شرفها الله بها، وهيأتها لها النشأة على أساس الدين، والقيام بعبء الدعوة إليه ونشره بين الناس، وهي الرسالة الأولى للمملكة العربية السعودية، إلى جانب القيام بوظائف الدولة الحديثة، من خلال المنهج الإسلامي بجوانبه المتكاملة كلها. حيث تُطبق شريعة الله، ويلتزم حكمه، ويؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وتختلف مسؤولية الدولة عن الدعوة في المملكة العربية السعودية، عنها في أي بلد إسلامي آخر في العصر الحديث، وذلك تبعًا للخصوصية التي تميز المملكة، وهي خصوصية عريقة منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى، وقد جددتها الدولة السعودية الحديثة حين قامت في القرن الرابع عشر الهجري على أساس الدين، واستمرت على ذات النهج إلى الوقت الحاضر، وستبقى بإذن الله كذلك.

 

وضوح نظام الحكم في المملكة والأنظمة الأخرى

إن مسؤولية الدولة عن الدعوة هي مسؤولية مباشرة، فرضها إيمان حكامها وقادتها بالدين الإسلامي، والتزامهم بتطبيقه، وتلاحم شعبها بقادتها على مر العصور في ذلك.

إن الدولة، تنظم أداء هذه المسؤولية، والقيام بتبعاتها على الوجه الأكمل. ولكن مدى المسؤولية، يتسع لكل ما تؤديه الدولة من أعمال. وتظهر هذه المسؤولية ظهورًا واضحًا، في كل مؤسسات الدولة، تطبيقًا عمليًّا للإسلام ودعوته.

 

فعلى مستوى التنظيم، يأتي نموذج المملكة العربية السعودية في نظمها، صريحًا واضحًا، يحدد الأساس الذي قامت عليه الدولة منذ البداية: ففي كلمة خادم الحرمين الشريفين بمناسبة صدور نظام الحكم: " أن الدولة، قامت على منهاج واضح في السياسة والحكم والدعوة والاجتماع، وهذا المنهاج، هو الإسلام عقيدة وشريعة ".

ثم أوضح خادم الحرمين الشريفين في كلمته، المبادئ الأساسية في هذا المنهج، والتي تضمنت: عقيدة التوحيد، وشريعة الإسلام، ومسؤولية حمل دعوة الإسلام ونشرها. حيث إن الدعوة إلى الله من أعظم وظائف الدولة الإسلامية، وأهمها.

 

وهي حقيقة، لا تجد مكانًا في دساتير الدول الإسلامية المعاصرة.

وفي نصوص النظام الأساسي للحكم في المملكة: " أن المملكة العربية السعودية: دولة، عربية وإسلامية، دينها: الإسلام، ودستورها: كتاب الله تعالى وسنة رسوله rولغتها: هي اللغة العربية ".

وفي المادة السادسة من النظام: " أن الحكم في المملكة العربية السعودية، يستمد سلطته من كتاب الله وسنة رسوله rوهما الحاكمان على نظام الحكم، وجميع أنظمة الدولة".

وهذا النص يجعل سياسة الدولة مطابقة لأهداف الدعوة، ويحدد المرجع الأول، والأصيل في سياسة الدولة، وممارستها لمناشطها في كل سلطاتها، وهو الكتاب والسنة، استجابة لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ‌سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ‌ مِنكُمْ ۖفَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُ‌دُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّ‌سُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‌ ۚذَٰلِكَ خَيْرٌ‌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[سورة النساء آية: 59. ]

 وقوله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّـهِ[سورة الشورى آية: 10.]

ولا وجه بعد ذلك للمجادلة في شأن هذا المرجع، ولا في المزايدة عليه، كما يقع في كثير من البلاد الإسلامية التي تكون فيها قضية المرجع، وقضية تطبيق الشريعة الإسلامية، مصدرًا للفجوة بين المجتمع الإسلامي والسلطة القائمة عليه.

فقد أرسى نظام الحكم في المملكة، العلاقة بين الدين والدولة، ووضع الدعوة في مكانها الصحيح بين واجبات الدولة، وأوضح، المرجع الذي يحتكم إليه ديانة وسياسة، وبذلك قضى على كل سبب للجفوة بين المجتمع وبين ولاة الأمر فيه.

أما في كثير من الدول التي تنتسب إلى الإسلام فنجد الخلاف الشديد في مرجعية الشريعة الإسلامية. ودساتير بعض تلك الدول تتجاهل الدين كلية، فلا تنص على أن الإسلام هو دين الدولة. وفي المقابل توجد دعوات أفراد وجماعات هناك تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية.

 

ونحن في المملكة العربية السعودية يسرنا أن يطبق كل مجتمع مسلم شريعة الله، فهذه هي رسالة المملكة من خلال دعوتها إلى التضامن الإسلامي، ومن خلال ما يتم من لقاءات أو اجتماعات مع قادة الدول والمسؤولين والمفكرين والعلماء.

إن الدعاة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية يجب أن يستفيدوا من ريادة هذه البلاد وتجربتها المميزة المتكاملة، ويقدروها حق قدرها.

 

وفي مقومات المجتمع السعودي، في الباب الثالث من نظام الحكم، وفي المادة الثالثة عشرة نص على أن التعليم يهدف إلى غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النشء، وإكسابهم المعارف والمهارات، وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم، محبين لوطنهم، معتزين بتاريخه.

وفي الباب الخامس من النظام، والمتعلق بالحقوق والواجبات، جعلت المادة الرابعة والثلاثون: الدفاع عن العقيدة الإسلامية والمجتمع والوطن، واجبًا على كل مواطن.

كما أن المادة التاسعة والثلاثين: ألزمت وسائل الإعلام والنشر، وجميع وسائل التعبير، بالكلمة الطيبة.

وهذا تنظيم لواقع عملي عاشته المملكة في مختلف مراحلها.

ويتضح من كلمة خادم الحرمين الشريفين، ومن نصوص النظام، أن المملكة العربية السعودية تقوم على أساس الدين، وأن الدعوة إلى الله من أهم واجباتها.

كما يتضح أن نظام الحكم في المملكة، تنبه إلى ارتباط الدعوة إلى الله بالنظام التعليمي والنظام الإعلامي في البلاد، فجاءت النصوص برعاية هذا الارتباط، في ظل الإسلام عقيدة وشريعة.

وإن أي مطلع على السياسة العليا للتعليم في المملكة، والسياسة العليا للإعلام، يدرك ذلك، مما لا يوجد في أي دولة من دول العالم الإسلامي.

فلا مجال في النظام في المملكة لترك التعليم والإعلام بعيدًا عن الدعوة إلى الله، وهي من أهم واجبات الدولة.

فارتباط الدعوة بهما، هو الذي يضمن أن تؤدي رسالتها دون معوقات، ولم يصبح التعليم، أو الإعلام، جُزُرًا منعزلة تختار طريقها ومنهجها، بعيدًا عن رسالة الدولة ومهام الدعوة. وهذا الارتباط الذي تضمنته نصوص نظام الحكم، عالج بوضوح داءً تشكو منه مجتمعات إسلامية عديدة، وهو انفصال النظام التعليمي والإعلامي عن رسالة الدعوة، بل ووجود كثير من أوجه التناقض بين مناشط الدعوة، وما تمارسه مؤسسات التعليم والإعلام.

 

إن مسؤولية الدولة عن الدعوة في المملكة مسؤولية كاملة، لأنها تتكامل مع النظام التعليمي والإعلامي في تربية المواطن، وتنشئته على الأساس الذي قامت عليه الدولة منذ البداية، وهو الأساس القوي للدولة، والأساس التربوي للمواطن.

وتقتضي هذه المسؤولية الكاملة عن الدعوة في نظام الحكم في المملكة، أن يشارك المجتمع في أداء هذا الواجب الديني والوطني أيضًا. فالدفاع عن العقيدة الإسلامية، كما ورد في النظام، واجب على كل مواطن.

وإلى جانب مهام الدولة وواجباتها، تتعدد في المملكة الهيئات والمؤسسات التي تقوم على خدمة الدعوة بجوانبها المتكاملة.

 

بدءًا من العمل على خدمة كتاب الله الكريم، تلاوة وحفظًا وفقهًا وتدبرًا لأحكامه، وتخصيص الأموال الكافية لتحقيق هذه الغاية؛ حيث أقيم أكبر مجمّع في العالم لخدمة القرآن الكريم، من حيث طباعته ونشره، وتفسيره وترجمة معانيه، وتحقيق كتب السنة والسيرة النبوية، ونشرها، وتوزيعها وترجمة معانيها.

إنه "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف" في المدينة المنورة، أكبر مجمّع في العالم.

لقد وزع من كتاب الله الكريم على المسلمين مختلف أنحاء العالم حتى الآن، أكثر من مائة وعشرة ملايين نسخة على كل حاج وهو في طريقه إلى وطنه بعد رحلة الحج خلال السنوات الماضية نسخة من كتاب الله الكريم، وترجمة معانيه لمن لا يجيد اللغة العربية.

وحقق وطبع العديد من موسوعات كتب السنة والسيرة النبوية والتي توزع على طلاب العلم والباحثين أينما كانوا.

وانتهاءً بما توفره الدولة لمؤسسات الدعوة بكل صورها داخل المملكة وخارجها من إمكانات. حيث خصصت الدولة - وفقها الله - وزارة للشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد تعمل بكل أجهزتها فيما يخدم الدعوة داخل المملكة وخارجها.

فمراكز الدعوة في المملكة لا تخلو منها منطقة من المناطق وتجمع يحتاج إلى الدعوة.

ومكاتب الدعوة في خارج المملكة منتشرة في مختلف مناطق العالم تتعاون مع المسلمين من خلال جمعياتهم مركزهم وهيئاتهم ومساجدهم ومدارسهم، وجامعاتهم، يعمل منة خلالها أكثر من ألفي داعية تابعين لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.

إضافَةً إلى طبع ملايين النسخ من الكتب الإسلامية والنشرات والأشرطة وتوزيعها في مختلف أنحاء العالم، وخاصة على حجاج بيت الله الحرام، مما يتعلق ببيان المناسك، وما ينبغي أن يكون عليه الحاج وهو يؤدي نسكه.

 

لقد بلغ عدد ما وزع من كتب ونشرات خلال موسم الحج الماضي فقط خمسة ملايين نسخة، ومليون شريط.

وفي المملكة العربية السعودية الآن ما يزيد على خمسين ألف مسجد، عمرتها الدولة، وتقوم الوزارة بفرشها وصيانتها، وتعيين الأئمة والمؤذنين والخدم فيها، وتوفر متطلباتها، لتؤدي مهامها في إتاحة الفرصة للمسلمين لأداء عبادتهم، وقراءة كتاب الله، ولتلقي الوعظ والإرشاد والتوجيه من خلالها.

 

هذا كله إضافة إلى تعاون الوزارة مع الجمعيات والهيئات الإسلامية في مختلف مناطق العالم. وإلى رعايتها للأوقاف في داخل المملكة، التي تخدم المساجد، وينفق منها على أعمال الخير والبر والدعوة إلى الله، ونشر الكتب، وتحفيظ القرآن، ورعاية طلاب العلم.

وهناك إنجاز تاريخي عظيم يلمسه كل حاج ومعتمر هو: توسعة الحرمين الشريفين بتوجيه كريم ومتابعة شخصية مستمرة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله.

 

اتساع مفهوم الدعوة في هذا العصر وتعدد صوره

وتجدر الإشارة، إلى أن الدعوة في هذا العصر اتسع مفهومها، وتعددت صورها، بدءًا من الكلمة الطيبة، وانتهاءً بما يقدم للمسلمين في جميع أنحاء العالم، من غوث عند المحن والكوارث.

لقد قدمت المملكة حكومةً وشعبًا للقضية الفلسطينية، سبعة مليارات ريال سعودي، منذ بدأت اللجنة الشعبية لمساعدة مجاهدي فلسطين عام 1387هـ تحت رئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أمير منطقة الرياض، وتوجيهه.

ونالت القضية الأفغانية من الدعم الحكومي والشعبي، ما لم تجده من أي مجتمع أو دولة أخرى، وذلك من خلال الهيئة العليا التي يشرف عليها سموه، حيث تعد جهود الدولة والشعب بآلاف الملايين، إضافة إلى الدعم المعنوي في مختلف المحافل الدولية طيلة سنوات الجهاد الأفغاني.

وكذلك قضية البوسنة والهرسك التي كانت همَّ خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني، وجميع المسؤولين والشعب لا المملكة العربية السعودية، والتي بلغت التبرعات لها بواسطة الهيئة العليا لدعم البوسنة والهرسك ألفًا ومائتي مليون ريال.

كل ذلك أمثلة عاجلة، لا تشمل ما قدم من تبرعات عينية، أو ما تم من أفراد أو مؤسسات مباشرة لم يعلن عنها. وما قدم للصومال في محنته، ولكثير من دول العالم الإسلامي، والأقليات الإسلامية.

فعندما تصاب دولة أو مجتمع بمحن أو كوارث، فإن المملكة، وخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده أول من يهب لنجدتها وغوثها.

وإن الشعب السعودي المتلاحم مع قيادته، والمتجاوب مع توجيهاتها، يسارع في تقديم العون، ويلبي نداء قادته، سواء أكان ذلك فرديًّا أم عبر الهيئات القائمة.

لقد قدمت هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية خلال ثمانية أعوام فقط من العون النقدي للمجتمعات الإسلامية المحتاجة، وللاجئين والأيتام والمتضررين من الكوارث، أكثر من مليار ونصف مليار ريال سعودي إضافة إلى المواد العينية.

كل ذلك من المملكة العربية السعودية، من قادتها والمسؤولين فيها وأثريائها وعامة شعبها.

هل حصل شيء مثل هذا من أي دولة في العالم العربي، أو الإسلامي أو الدولي؛ لم يحصل شيء من ذلك.

وفي مجال الإسهام في توجيه المسلمين، والحفاظ على هويتهم الدينية أينما كانوا، دعمت المملكة العربية السعودية رابطة العالم الإسلامي ومكاتبها ومراكزها في العالم كله، والمجلس الأعلى العالمي للمساجد المنتشرة فروعه في العالم، وإن ما ينفق سنويًّا على هذه المجالات يزيد على مائة مليون ريال، كلها تصب في ميدان الدعوة، ونشر الإسلام، وعون المسلمين، والمحافظة على هويتهم.

واهتمت المملكة العربية السعودية بنشر الإسلام، من خلال تعليم أبناء المسلمين وعون المدارس والجامعات، التي تقوم بذلك في مختلف مناطق العالم، وإقامة المعاهد والكليات والمدارس، على نفقة المملكة، مما استفاد منه مئات الآلاف من أبناء المسلمين.

ووفرت فرص الدراسة للطلاب المسلمين في جامعات المملكة معاهدها ومدارسها، بل خصصت جامعة كاملة بأجهزتها وهيئاتها لأبناء المسلمين، ألا وهي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.

لقد تخرج في جامعات المملكة العربية السعودية حتى الآن من أبناء العالم الإسلامي والأقليات المسلمة ما يزيد على ثلاثين ألف طالب، تأهلوا بالعلوم الشرعية خاصة، وبالعلوم الأخرى الضرورية لهم في حياتهم بشكل عام، وعادوا إلى بلادهم ليقوموا بالدعوة إلى الله، وتعليم إخوانهم الإسلام وعلومه، وليسهموا في نهضة مجتمعاتهم، وبنائها على أسس علمية صحيحة.

 

هذا العمل الذي قامت به المملكة في مجال التعليم، من أعظم مجالات الدعوة وأهمها وأكثرها نفعًا.

لقد استضافت المملكة منظمة المؤتمر الإسلامي ودعمتها ماليًّا ومعنويًّا، وقدمت لها وللهيئات المنبثقة عنها في مختلف مناطق العالم الكثير من المال والجهد والتأييد، مما هو مشاهد ومعروف لكل متتبع لعمل المنظمة ومناشطها وبرامج عملها.

إن المملكة حملت لواء التضامن الإسلامي في كل مناسبة، وعملت مختلف المحافل والمناسبات على جمع كلمة المسلمين وتآزرهم تعاظم، وعلى إيجاد الهيئات والمؤسسات التي تسهم في ذلك.

 

يتسع المجال لتفصيل صور هذه المعونات، ولا قدرها الهائل، والذي يجاوز ما تقدمه أغنى الدول باسم التعاون الدولي.

وما تقدمه المملكة، إنما يصدر عن واجب يمليه عليها دينها وأساسها الذي قامت عليه، والذي يتسع لما يضيق عنه التعاون الدولي مهما كان من أهميته وقدره.

لقد بلغ إجمالي مساعدات المملكة، وإسهامها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد العربية والإسلامية، وفي مدة لا تتجاوز عشرين عامًا مضت، ما يزيد على سبعين مليار دولار.

ففي مجال المساعدات الإنمائية الرسمية ( O D A) تحتل المملكة المرتبة الأولى من بين الدول المانحة. وقدرت مصادر صندوق النقد الدولي متوسط إسهام المملكة في المساعدات الإنمائية الرسمية خلال الفترة 1973- 1989مبما يعادل 5. 1% من ناتجها القومي، وهي نسبة لم تبلغها الدول الكبيرة والغنية.

 

وقد أنشأت المملكة لأغراض المعونات الإنمائية الرسمية مؤسسة خاصة عرفت باسم " الصندوق السعودي للتنمية " عام 1974مبرأسمال قدره 10بلايين ريال سعودي رفعت إلى 15بليون ريال عام 1980مثم إلى 25بليون ريال عام 1981، فأسهم الصندوق ومازال يسهم في تمويل مئات المشروعات والقروض الإنمائية الحسنة الطويلة الأجل والتي وصلت آثارها التنموية إلى جميع البلدان العربية والإسلامية. وتنفق المملكة بسخاء على دعم البرامج الإنمائية المنبثقة عن الأمم المتحدة، ويمكن الرجوع إلى الإحصاءات المباشرة والتقارير التي تصدرها تلك المنظمة وتعترف فيها بالعمل العظيم والريادي لهذا البلد الكريم( انظر تقرير صندوق النقد الدولي عن المساعدات المالية من الأقطار العربية ومؤسساتها الإقليمية. (واشنطن 1991 م) ص 11- 13، والجدول 3 في ص 43.)

 

إن أكثر هذه المساعدات موجه إلى دولة أفريقيا وآسيا، وخاصة منها المناطق الإسلامية، حيث تشمل المساعدات الإنمائية دعم مشاريع التنمية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك لرفع مستوى معيشة الشعوب الإسلامية. كما تشمل إغاثة المتضررين من الجفاف والكوارث وعون اللاجئين.

وأكثر هذه المساعدات تصب في مجال خدمة الإسلام ونشر تعاليمه، من خلال إنشاء المساجد والمراكز والجامعات في العالم الإسلامي، ولدى الأقليات والجاليات المسلمة، ودعم المؤسسات الإسلامية التعليمية والثقافية، وإيفاد المدرسين والأئمة والدعاة، وتقديم المنح.

وبذلك أصبحت مسؤولية المملكة العربية السعودية عن الدعوة، مسئولية تتصف بالصفة الدولية، ولا تقتصر على المجال الداخلي وحده. وهذا هو المفهوم الواسع والصحيح لهذه المسؤولية، والذي يعيد إلى الأذهان رسالة الدولة الإسلامية الأولى، وما كان عليه العمل في العصور الزاهية للأمة الإسلامية.

 

وأخيرًا:

إن ما قامت عليه المملكة العربية السعودية، وطبقته في حياتها من احتكام للإسلام، وتطبيق لشريعة الله، وقيام بواجب الدعوة، وعون للمسلمين أينما كانوا، وأداء للحقوق والواجبات، وعدل في التعامل مع شعبها، ومع الشعوب والدول الأخرى.

وما تضمنه نظام الحكم فيها، والذي تخلو منه دساتير الحكم في البلاد الإسلامية وأنظمتها. إن ذلك كله يكشف بجلاء سر نهضة المملكة العربية السعودية، واستقرارها وأمنها، وتعاون مواطنيها مع قادتهم، وما تعيشه من أمن ورغد.

كما يكشف لنا عن الأسباب الحقيقية لذلك الاضطراب الذي يسود بعض المجتمعات الإسلامية.

 

إن المجتمع المسلم إذا علم أن دولته تقوم على الإسلام، وتطبق شريعته، وتنهض بمسؤوليتها في خدمة دعوته، فإنه يبذل طاقته وطاعته لهذه الدولة وقيادتها، كما هو الواقع الفعلي في المملكة العربية السعودية وقادتها وشعبها، تلاحمًا ونصرة وطاعة.

وإذا تم ذلك في أي مجتمع، فمن شأنه، أن تتوحد إرادة الأمة، وأن تتجنب التفرق والانقسام، وأن تختفي من ساحته مشكلات التطرف والعنف.

وهي مشكلات تجد أصلها في بعض المجتمعات الإسلامية، في غموض المرجع في الشريعة الإسلامية واعتباره مرجعًا واحدًا وأصيلًا لكل الأمور: الديانة والسياسة، والمجتمع والسلطة، والدولة والدعوة.

 

وهو ما تتطلع إليه الشعوب الإسلامية، حتى تبذل طاعتها وطاقتها خالصة لسلطاتها، حينما تجعل الإسلام أساس بنيانها، والدعوة إلى الله أهم واجباتها.

كما قامت بذلك دولة الإسلام الأولى، في المدينة المنورة، وتتابعت على ذلك دول الإسلام، في مختلف عصوره، وكما هو الواقع في المملكة العربية السعودية، منذ نشأتها وإلى اليوم، وهي سنة الله في كل دولة تنتمي إلى الإسلام، وتعمل به.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه، رب العالمين.

 


 

فهرس الآيات

أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين................................................................ 6

أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون........................................... 6

إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون................................................................. 10

إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون.................................................... 19

إن هو إلا وحي يوحى.............................................................................. 13

إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون............................................................ 12

إني لكم رسول أمين................................................................................ 10

بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم...................... 12

فاتقوا الله وأطيعون................................................................................. 10

فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل......................... 22

قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين.......................................... 24

قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين.............................................. 6

قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين............................................. 6

قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء................ 10

قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله...................... 8

كذبت قوم نوح المرسلين.......................................................................... 10

كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون.. 18, 19

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.................... 9

ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى....................... 13

ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون.................................... 6

واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين...................................................... 11

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن........................ 11

وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على....................... 6

وأنذر عشيرتك الأقربين............................................................................... 10

وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا................................ 11

وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو.................... 15

وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر............................ 32

ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك.................... 12

ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر............... 6

وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت....................... 54

وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين................................... 10

وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون......................................................... 9

وما ينطق عن الهوى............................................................................... 13

ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين................. 8

ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.......................... 53

ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته.......................... 6, 10

 

فهرس الأحاديث

أن نبي الله كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم....... 26

بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم........................ 7

لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم..... 14

من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا..... 7

من دل على خير فله مثل أجر فاعله.............................................................. 7

نص كتاب النبي إلى هرقل عظيم الروم، وفيه أما بعد، فإني أدعوك بدعاية............ 27

نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه.............................................. 7

وفي كتابه إلى كسرى عظيم فارس أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله............. 27

يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على................ 38

 

الفهرس

تقديم2

مقدمة. 4

الدعوةإلى الله  وأمانة تبليغها والحاجة الماسة إليها  في هذا العصر. 6

الدين والأمة والدولة  في التصور الإسلامي. 18

الدولة والأمة. 18

الدين والدولة. 22

الدولة والدعوة  في التاريخ الإسلامي. 26

قيام الدولة في عهده rوخلفائه بواجب الدعوة26

التزام الدول الإسلامية في التاريخ الإسلامي بالإسلام ودعوته. 30

الدولة والدعوة  في البلاد الإسلامية في العصر الحديث.. 32

تأثير الفكر الغربي في كثير من المجتمعات الإسلامية. 32

ارتباط موقف الدول الإسلامية من الدعوة بموقفها من الدين. 36

العقبات التي واجهت الدعوة في كثير من البلاد الإسلامية. 41

الدولة والدعوة  في المملكة العربية السعودية. 47

خصوصية النشأة والارتباط بالدين. 47

وضوح نظام الحكم في المملكة والأنظمة الأخرى.. 53

اتساع مفهوم الدعوة في هذا العصر وتعدد صوره58

فهرس الآيات.. 63

فهرس الأحاديث.. 65

الفهرس.. 66

 

 

المراجع

http://www.islamhouse.com/d/files/ar/ih_books/single/ar_mswlit_aldol_about_dawh_and_saudih_namozg.doc.

مسؤولية الدول الإسلامية عن الدعوة ونموذج المملكة العربية السعودية

 المؤلف : عبد الله بن عبد الله بن المحسن التركي

 

967 مشاهدات
أصلحنا أو أصلح نفسك
.
تعليقات
الصفحة أعلى